بسم الله الرحمن الرحيم
[فحشُ اللَّحن عند العرب وأهل الفنِّ]
الحمد لله ذي الجلال والإكرام علّم الإنسان وأنطقه بالبيان ,وما الإنسان إلا قلبٌ ولسان كما قال المُعيدي: المرء بأصغريه: لسانه وجنانِه؛ إن نطق نَطَق ببيان، وإن قاتلَ قاتلَ بِجَنان. وان الكلام لفي الفؤاد وإنَّما جُعل اللسان على الفؤاد دليلاً
- وبينا أنا أقلب الطَّرف في دفاتر اللّغة وقعت على كلماتٍ دُررٍ وفوائد غررٍ من كتاب الإبانة للعَوْتبي والتَّصحيح للصفَدي , فنَسختُها مُستَوفزاً عجلان , وعزمتُ على نشرها لإفادة الإخوان,وحثّهم على لغةِ القرآن , فبالله نستعين وعليه التُّكلان :
- قال أبو عكرمة: كان عمرُ إذا سمع رجلاً يخطئُ قبَّح عليه، وإذا أصابه يلحنُ ضربه بالدرَّة. ويروى أن كاتباً لأبي موسى الأشعري كتبَ إلى عمرَ كتاباً فلحَن فيه. فكتب عمرُ إلى أبي موسى: أن اضربِ الكاتب سوْطاً واعزله عن عملِك.
- وقيل إن رجلاً قصد أبا بكرٍ، رضي الله عنه، في حاجة، فكثُر لحنُه ..."1" إبدادُه"2". فقال له: استُرْ عورتك وسلْ حاجتَك. فبادرَ الرجل ثوبَه. فقال له عمر، رضي الله عنه، وكان حاضراً: لم يُردك خليفةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا، إنما أمرك بإصلاح لسانِك.
- وعن عمرَ رحمه الله، أنه قال: "أحبُّكم إلينا أحسنُكم وجهاً حتى نستنطقكم، فإذا استنطقناكم كان أحبُّكم إلينا أحسنَكم منطقاً حتَّى نختبرَكم، فإذا اختبرناكم كان أحبُّكم إلينا أحسنَكم مَخْبَراً".
- وعن عمر رضي الله عنه، أنه خرج على قومٍ يرمُون فعابَ عليهم سوءَ رميِهم. فقالوا: نحن قوم متعلِّمين. فقال عمر: لَلَحْنُكم أشدُّ عليَّ من سوءِ رميكم.
- وعن عمرَ بنِ عبد العزيز أنه خرج على قومٍ يرمُون بالنّشاب، فعاب عليهم رميَهم،
فقالوا: نحن قوم متعلِّمين يا أميرَ المؤمنين. فقال سوءُ الكلام أسوأُ من سوءِ الرماية، تعلَّموا الكلامَ ثم تعلَّموا الرماية.
- وعن ابن عمر أن رجلاً أتاه فقال له: يا أبا عبد الرحمن، ما تقول في رجل مات وترك أبوه وأخوه؟ فقال ابن عمر: ويحك، أباه وأخاه. فقال الرجل: فما لأباه وأخاه؟ قال ابن عمر: لأبيه وأخيه. قال الرجل: قد قلت فأبيتَ. قال ابن عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما فاتك من أدبك أضرُّ بك مما فاتك من ميراثِك.
- وقيل: دخل رجلان على سليمان بن عبد الملك فقال أحدهما: مات أبانا، رحمه الله، فوثب أخينا على ميراثنا من أبونا فرضينا بك لتُنصِفنا منه. فقال سليمان: لا حفظَ الله أخاك ولا رحمَ أباك ولا ردَّ مالك، اخْرُج عنِّي، فوالله ما أدري أمن لحنِك أعجبُ أم من [....]"3" له.
- قال زهيرٌ لرجل: تعلَّم النَّحو، قال: وأيُّ شيء أصنعُ بالنحو؟ قال له: إن بني إسرائيل كفرت في كلمةٍ، أنزل الله تعالى في الإنجيل: "أنا ولَّدت عيسى"، فقرؤوها مخففة "ولَدْتُ عيسى" فكفروا. وقال الله، عز وجل، في الإنجيل لعيسى، عليه السلام: "أنت نبيِّي، وأنا وَلَّدْتُك" مثقَّل، فحرَّفته النَّصارى وقرأوا: "أنت بُنَيّي وأنا وَلَدْتُك" مخفَّف.
قال ابن شبابة: حضرت جنازةً بمصر، فجاءني بعض القِبط فقال لي: يا كهل، مَنِ المتوفَّي؟ فقلت: الله. قال: فضُربت حتى كدتُ أموت.
- ودخل رجل من الأشراف على زياد بن أبيه فقال: إن أبينا هَلَك، وإنَّ أخونا غصبنا على ميراثنا من أبانا. فقال زياد: ما ضيَّعت من نفسك أكثر مما ضيَّعت من مالك.
- وروي أن رجلاً قال للأصمعي: يا أبو سعيد، فقال: يا لُكع، كسبُ الدوانيق شغلَك أن تقول: يا أبا سعيد. وروي أن رجلاً قال له: يا أبي سعيد، فقال له: لا أدركتني بالفتحة، لقتلتني بالكسرة.
- وجاء رجل إلى صديق له، فوقف ببابه، ونادى: ياأبو فلان، فلم يُجبه، فقال: ياأبي فلان. فقال له: قل الثالثة وادخل. يريد قل: ياأبا فلان.
- ودخل رجل على عمرَ بن عبد العزيز، فتكلم وأكثر. فقال شرطي على رأسه: قد أوذيت الأمير. فقال عمر: أنت والله أشدُّ أذى لي منه.
- ولحنَ خالد بن صفوان عند عبد الملكِ بن مروان، فقال عبد الملك: اللَّحن في الكلام أقبحُ من العوار في الثوب النَّفيس.
وقال بعضُهم: كان مؤدِّبو المدينة يضربون على الخطأ واحدةً وعلى اللَّحن ستاً. وكان ابنُ سيرين يسمع الحديث ملحوناً فيحدِّث به ملحوناً. فقال الأعمش: إنَّ كان الذي حدَّث به ابن سيرين لحناً، فإن رسول الله صلى الله عليه لم يلْحن.
- وقال أبو بكر: لأن أخطئَ في القرآن أحبّ إليَّ من أن ألحنَ فيه. قال الحسنُ: منْ لحنَ في القرآن فقد كذب على الله غير متعمِّد. قال خُليد العصري: أتينا سلمان الفارسي ليقرئنا القرآن، فقال: إن القرآن عربيٌّ فاستقرئوا رجلاً عربياً، فقرأنا على زيد بن صوحان.
- وعن ابن مسعود: أَعربوا القرآن فإنه عربيٌّ. وقال مكحول: من قرأ القرآن بالعربية ضوعف أجرُه مرتين. وقيل للحسن: إن إمامنا يلحنُ، فقال: نحُّوه.
- عن أبي موسى البصري قال: قال رجل للحسن: يا أبا سعيد، ما أراك تلحن. فقال: يا ابن أخي، إني سبقت اللحن.
-كان سابق الأعمى يقرأ: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} بفتح الواو، وكان ابن جابان يقول له إذا لقيه: ما فعل الحرف الذي تكفر بالله فيه؟ وقرأ أيضاً: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}.[ بفتح التاء] وكان ابن جابان يقول: وإن آمــنوا أيضاً لم نَنكحهم.
- وقرأ الحجاج: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}، نصب إنَّ سهواً، فلما تلقَّتها لام خبيرٍ أسقطها، فكان تغيير القرآن أسهلُ خطأً وأيسر ذنباً عليه من اللحن فيه.
- روي أن علي بنَ حمزة الكسائي ويعقوب بنَ إبراهيم القاضي، اجتمعا عند الرشيد، وكان أبو يوسف يُزري على عليٍّ النحو، فقال له الكِسائي: ما يقول القاضي في رجلين اتُّهما بقتل عبدٍ لرجل، فقدمهما إلى قاض، فادعَّى عليهما قَتْل عبدِه. فسأل القاضي أحدهما، فقال: أنا قاتلُ عَبْدِه، وسأل الآخر فقال: أنا قاتلٌ عَبْدَه، أيهما القاتل؟ فقال: جميعاً. فقال الكسائي: بئس ما قلت، أنعِم النظر. فقال: الذي قال: أنا قاتلٌ عبدَه. فقال: وهذا أيضاً خطأ. فقال الرشيد: أما علمت أن الذي قال: أنا قاتلٌ عبدَه، قد وعد بقتله ولم يقتُلْه، وأن من قال: أنا قاتلُ عبدِه قد أقرَّ بالقتل؟ فانتبه أبو يوسف، فقال: قليلٌ من العلم كثير، وأعملَ نفسه حتى علم من النحو ما كان يتحذَّر به من اللحن.
- وقيل: إن سائلاً سأل أبا يوسف عن رجل حلَف أن امرأته طالق أن دخلت الدار، وآخر حلف أن امرأته طالق إن دخلت الدار. فقال: أيتها دخلت فقد حنثَ الحالف. قال: وكان الكسائي حاضراً فقال: أوليس الخرسُ أحسن من هذا الجواب؟ وسمع أبو يوسف مقالته فشكاه إلى الرشيد فقال: صدق الكسائي، الخرس أحسن من اللَّحن. أما علمت أن من خفَض قد حَلف على شيء يكون في المستقبل؟ فمتى دخلت امرأته الدار حنث، والآخر إنما حلف يمينه بفعل ماضٍ، فإن كانت امرأته دخلت الدار قبل حلفه عليها فقد طَلُقَت، وإن لم تكن دخلت لم تطلَّق. قال: وكانت هذه المسألة حدت أبا يوسف على أن طلب النَّحو وتعلمه.
---------------------
1-بياض قدر كلمة.
2- الإبدادُ في الكلام التفرُّق والإعياء(اللسان :بدد)
3-مطموسة في الأصل.
[ الإبانة في اللغة العربية سَلَمة بن مُسْلِم العَوْتبي الصُحاري (ص14, 20) ت: د. عبد الكريم خليفة - د. نصرت عبد الرحمن - د. صلاح جرار - د. محمد حسن عواد - د. جاسر أبو صفية مطابع مؤسسة عمان].
- تصحيف المحدّثين
- حكى أبو أحمد الحسن العسكري قال: حكى القاضي أحمد بن كامل قال: حضرت بعض مشايخ الحديث من المُغفَّلين فقال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله عن رجل، قال: فنظرتُ فقلتُ مَن هذا الذي يصلح أن يكون شيخ الله؟! فإذا هو قد صحّفه، وإذا هو: عزَّ وجلّ.
- قال العسكري: وأخبرني أبو عليّ الرّازي قال: كان عندنا شيخ يَروي الحديثَ من المغفّلين، فروى يوما: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم احتجَم يوماً وأعطى الحَجّام آجُرّةً.
وروى بعضهم أنّ بعضَ المغفّلين روى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يغسِل خُصى حِماره، وإنما هو يغسِل حصَى جِمارِه، بالحاء المهملة أولاً والجيم ثانياً.
- وروى بعضهم: الجَارُ أحقّ بصُفَّتِه؛ بالفاء المشددة والتاء ثالثة الحروف، وإنما هو بصَقَبِه، بالقاف والباء الموحدة.
وقد صنف الإمام الدارقطني مجلّداً في تصحيف المحدّثين وكذلك العسكري أيضاً.
- تصحيف الفقهاء
- قال يوماً بعض المدرسين: ولا يكون النَّذْر إلا في قرْيَة، قاله بالياء آخر الحروف، وهو بالباء الموحدة مضمومة القاف، وقال بعضهم في التنبيه: ويُكْرَه القَرْع ويُحِبُّ الخِيار، وإنما هو ويُكره القَزَع بالزاي، ويجِبُ، بالجيم، الخِتان بالتاء ثالثة الحروف وبعد الألف نون.
- وقال بعضهم يوماً: وقال الشافعي: ويُستَحَبّ في المؤذّن أن يكون صَبياً، بالباء الموحدة والياء آخر الحروف، فقيل له: ما العلة في ذلك؟ قال: ليكونَ قادراً على الصعودِ في درَج المئذنة، وإنما هو صِيّيتاً، من الصوت.
- تصحيف الكُتّاب
- قرأ يوماً بعضهم: أبو مُعسر المُتخم، بالسين المهملة من الإعسار وبالتاء ثالثة الحروف المشددة وبالخاء المعجمة، وإنما هو: أبو مَعشَر المنَجِّم.
- وقرأ يوماً بعض كُتّاب المأمون قصة فقال: أبو ثريد بالثاء رابعة الحروف، فقال: كاتبنا اليوم جوعان، أحضروا له ثريداً، فأكل، فقرأ بعد ذلك: فلان الخبيصيّ فقال: هو معذور، ليس بعد الثريد إلا الخبيص، أحضروا له خبيصَة، وكانت الحِمَّصي والميم مفتوحة.
- وكتب سليمان بن عبد الملك الى ابن حزم أمير المدينة: أن أحصِ مَنْ قِبَلَك من المُخنّثين. فصحف كاتبه وقرأ: اخصِ، بالخاء المعجمة، فدعاهم الأمير وخَصاهم أجمعين.
وحكى لي بعض الأصحاب أن الأمير علاء الدين الطنبغا، نائب حلب جاءتْ مُطالعةُ بعض الوُلاة يذكرُ فيها أنه وُجِد في بعض الأماكن شخص وهو مقتول وخُرْجُه تحت إبطه، فقال: اكتب أنكر عليه وقل: لأي شيء ما جهزتَ الخُرْجَ الذي كان معه تحت إبطه؟ فعاد جوابُ الوالي يقول: إنما قلتُ: وجُرْحُه تحت إبطه.
- وقرأ يوماً بعض الأكابر على السلطان الملك الناصر محمد قصة فيها: والمملوك من حَمَلةِ الكِتاب، فقرأها: جُملة الكتان، فقال السلطان: مِن حَمَلةِ الكِتاب العزيز.
- تصحيف الشعراء :
- قرأ يوماً بعض الطلبة على أبي عبد الله المُفجَّع:
ولمّا نزلْنا منزِلاً طَلّه النّدى ... أنيقاً وبُستاناً من النَّوْرِ خاليا
بالخاء المعجمة، فحرك المفجَّع كتفيه وقال: يا سيد أمه! فعلى أي شيء كانوا يشربون؟ على الخسف؟.
من مقدّمة كتاب :
[ تصحيح التصحيف وتحرير التحريف لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي
ت: السيد الشرقاوي مراجعة: الدكتور رمضان عبد التواب مكتبة الخانجي – القاهرة]
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا اله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
تعليق