إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
فقد تكلم أستاذنا العلامة اللغوي الكبير الدكتور رمضان عبد التواب رحمه الله تعالى عن مشكلة تعليم العربية فقال رحمه الله:يشكو كثير من الناس ، من ضعف مستوى الدارسين في اللغةالعربية، بمدارسنا وجامعاتنا، وتلك مشكلة مزمنة، طال عليها الأمد، وحارت العقول في البحث عن علتها، والإشارة إلى موطن الداء فيها... وأقصى ما كانت تمتد إليه يد الإصلاح في هذه المشكلة، هو الكتب المدرسية، والمصطلحات النحوية، ثم يعجب المصلحون، حين يرون هذا الإصلاح، لم يؤت ثماره المرجوّة، ويشاهدون انحدار المستوى يوما بعد يوم،كأننا أمام بئر ينضب ماؤها بالتدريج، ولا شىء يَرفِدُها، ويُصلِح من شأنها. ولو استمر الحال على ذلك، لجاء يوم قريب تشيع فيه الأمية بين حملة الشهادات العليا، ولقد جمعتنى منذ أعوام جلسة فى القاهرة، مع أحد المستشرقين الألمان فذكر لي أنه التقى ببعض خريجي الجامعة عندنا، فتعجب من أنهم لا يقيمون جملة عربية، ولا يدرون شيئا عن تراثهم، ولم يقرءوا للجاحظ ولا لابن قتيبة، أو للمبرد، أو لغيرهم من أعلام العربية، وتلك للأسف حقيقة مفجعة! هذه المشكلة بتلك الصورة، مشكلة تعلّم اللغة الأدبية - لم يُعانِ منها شعب كما تعانى الأمة العربية في أيامنا هذه، وهى مشكلة متعددة الجوانب ، ولست أدعي أنني سأحيط هنا بجميع نواحيها، ولكنني سأتناول بالتحديد أربع نقط بالبحث، أولها: لماذا نهتم باللغة الفصحى؟ وثانيها: هل العربية لغة صعبة؟ وثالثها: كيف ينتقى مدرس العربية؟ وكيف يعدّ؟ ورابعها: ما الطريق الأمثل إلى تعلم العربية؟
لماذا نهتم بالعربية الفصحى؟
للعربية الفصحى ظرف خاص، لم يتوفر لأية لغة من لغات العالم، وهذا الظرف يجعلنا نرفض ما ينادي به بعض الغافلين والمغرضين، من ترك الحبل على الغارب للعربية الفصحى، لكي تتفاعل مع العاميات، تأخذ
منها وتعطي، كما يحدث في اللغات كلها ... حقا إن اللغة كائن حي تتطور على ألسنة المتكلمين بها ، فينشأ من هذا التطور اختلاف بين لغة عصر والعصر الذي سبقه، وهنا يحدث الصراع بين أنصار الشكل القديم،
وأنصار الشكل الجديد، وبعد فترة يصبح قديما ما كان بالأمس جديدا، فيتصارع مع جديد آخر، وتضمحل لغة العصر الأسبق أو تندثر، غير أن كل جديد لا يظهر فجأة، ولا يقضى على القديم بين يوم وليلة، بل يظل
الصراع بينهما لفترة قد تطول أو تقصر، غير أن الانتصار يكون في النهاية للشكل الجديد، تلك سنة الحياة، وتاريخ اللغات جميعها يشهد بهذا، ولا نعرف لغة على ظهر الارض، جمدت على شكل واحد مئات السنين؛ غير أن العربية الفصحى لها – كما قلنا – ظرف لم يتوفر لأية لغة من لغات العالم، ذلك أنها ارتبطت بالقرآن الكريم، منذ أربعة عشر قرنا، ودون بها التراث العربى الضخم، الذى كان محوره القرآن الكريم، في كثير من مظاهره، وقد كفل الله تبارك وتعالى لها الحفظ ما دام يحفظ دينه، فقال عز وجل: (إنَّا نَحْنُ نَزلنَا الذكر وإنَّا لَهُ لَحَافِظونَ)، ولولا أن الله شرفها جلّ وعلا فأنزل بها كتابه، وقيّض له من خلقه من يتلوه صباح مساء، ووعد بحفظه على تعاقب الأزمان – لولا كل هذا لأمست اللغة العربية الفصحى لغة
أثرية، تشبه اللاتينية أو السنسكريتية، ولسادت اللهجات العربية المختلفة فى نواحي الأرض العربية، وازدادت على مر الزمان بعداً عن الأصل الذى انسلخت منه، هذا هو السر الذى يجعلنا لا نقيس العربية الفصحى بما يحدث في اللغات الحية المعاصرة، فإن أقصى عمر هذه اللغات، في شكلها الحاضر، لا يتعدى قرنين من الزمان ، فهي دائمة التطور والتغير، وعرضة للتفاعل مع اللغات المجاورة، تأخذ منها وتعطي، ولا تجد في كل ذلك حرجا ؛ لأنها لم ترتبط فى فترة من فترات حياتها بكتاب كريم، كما هى الحال
في العربية.
فاهتمامنا بالعربية يجب أن يكون نابعا من هذا المنطلق وهو
ارتباطها بالدين الإسلامى والتراث العربي، وإذا أصبح هذا المنطلق واضحا "في أذهان القائمين على تعليم العربية، لم يجنح بهم الحيال يوما إلى الاعتقاد بأن إجادة تعليم هذه اللغة، سيقضي على لغة الحديث اليومي تماما، فليس من اللازم أن يستخدم الناس جميعا هذه اللغة الأدبية في أحاديثهم، بل إن هذا أمر يكاد يكون مستحيلا، ولم يحدث فى أي عصر من العصور؛ فمن القواعد المقررة عند علماء اللغة أنه يستحيل على مجموعة بشرية تعيش فى مساحة أرضية شاسعة أن تصطنع في حديثها اليومى لغة
موحدة تخلو من اختلاف صوتى، أو دلالي، أو اختلاف في البنية أو التراكيب.
إن هذه قضية ليست في حاجة إلى برهنة، فاللغات التى تعيش بيننا الآن تعاني من هذه الظاهرة، ولا يمكن تجنبها في أي لغة من اللغات، وإنما الذي يمكن أن يحدث عن طريق التعليم الجاد للعربية، هو أن تقترب المسافة بين العاميات والفصحى، وأن نقرأ تراثنا الأدبي ونتمثله، ونستمد منه عظمة الماضي، وعدة الحاضر، وأمل المستقبل؛ أما فيما عدا ذلك، فيمكن للموهوبين الذين يصبح في مقدورهم محاكاة هذه اللغة الأدبية، وما أكثرهم عندئذ - أن يحاكوا هذه اللغة في أحاديثهم وكتاباتهم، على اختلاف درجاتهم فى ذلك.
هل العربية لغة صعبة ؟
يسود بين جمهرة المثقفين العرب ، شعور مدمر بأن لغتنا الجميلة ،
العربية الفصحى، لغة معقدة القواعد ، صعبة التعليم ، كثيرة الشذوذ فى مسائلها وقضاياها ، بحيث تجعل من تعلمها ، أو استخدامها وتجعل التحدث
بها ، عبئا ثقيلا على أهلها ولقد انتهز المغرضون هذه الفرصة ، وأخذوا يصيدون في الماء
العكر ، ويدعون إلى استخدام العامية ، وهجر الفصحى أو خلطها بالعامية ، وهى دعوة حمل لواءها منذ فترة طويلة ، المعادون للإسلام وأهله ؛ فادعوا أن إعراب العربية الفصحى ، أمر عسير التعليم ، ليصرفوا المسلمين
عن منبع دينهم ، وعماد شريعتهم ، ودستور حياتهم ، وهو القرآن الكريم
الذى أنزله الله عز وجل ، بهذه العربية الفصحى
والحق أن هذا الإعراب ، الذى يوصف . بأنه معقد وصعب ، لا تنفرد به العربية الفصحى وحدها ، بل إن هناك لغات كثيرة ، لا تزال تحيا بيننا ، وفيها من ظواهر الإعراب المعقد ، ما يفوق إعراب العربية بكثير ؛ فهذه هى اللغة الألمانية مثلا ، تقسم أسماءها اعتباطا إلى مذكر ومؤنث ، وجنس ثالث لا تعرفه العربية ، وهو : المحايد ، وتضع لكل من هذه الأجناس الثلاثة ، أربع حالات إعرابية ، هى حالات : الفاعلية
والمفعولية ، والإضافة ، والقابلية ، وهذه الحالة الأخيرة ، لا تعرفها العربية ، وهى إعراب المفعول الثانى ، فهى من حالات المفعولية في العربية ، وليست
حالة خاصة فيها . تلك هى حالات إعراب الاسم المفرد المعرف فى الألمانية
والمفرد المنكر له أربع حالات أخرى ، وكذلك الجمع المعرف والجمع المنكر
وبناء الجملة في اللغة الألمانية ، له نظام صارم ، فالفعل يحتل فيها
المرتبة الثانية دائما ، إلا في الجمل الفرعية ، كالجمل التعليلية مثلا ، فإن
الفعل يؤخر فيها إلى نهاية الجملة، وإن من يشكو من كثرة جموع التكسير
فى العربية ، وغلبة الشذوذ على قواعد هذا الجمع فيها ، سيحمد للعربية
الاطراد النسبي فى هذه القواعد ، إذا درس اللغة الألمانية ، ورأى كثرة صيغ
هذه الجموع فيها ، وفقدان القاعدة التى تخضع لها تماما ، إلى درجة أن كل
كتاب في تعليم قواعد الألمانية ، تبدأ صفحاته الأولى بهذه العبارة : « احفظ
مع كل اسم ، أداة تعريفه ، وصيغة جمعه ؛ لانه ليست هناك قاعدةلذلك »
فليست العربية إذن ، بدعا بين اللغات ، في صعوبة القواعد ، غير
أن شيئا من هذه الصعوبة ، يعود بالتأكيد ، إلى طريقة عرض النحويين
لقواعدها ، فقد خلطوا في هذه القواعد بين الواقع اللغوي والمنطق العقلي
وبعدوا عن وصف هذا الواقع إلى المماحكات اللفظية ، وامتلأت كتبهم
بالجدل والخلافات العقيمة ، فضلّ المتعلم وسط هذا الركام الهائل من الآراء
المتناقضة فى بعض الأحيان . والحقيقة أن القواعد الأساسية لنحو اللغة
العربية ، يمكن أن تستخلص فى صفحات قليلة ، مصفاة من هذا الحشو الذى لا طائل وراءه.
كيف ينتقى مدرس العربية وكيف يعدّ ؟
يمثل مدرس العربية حجر الزاوية ، في هذه المشكلة التى نعالجها ،
وإليه يوجّه اللوم عادة فى الوصول إلى هذه النتيجة ، التى وصل إليها تعليم
العربية فى بلادنا . ولسنا هنا نتهم المعلمين ، أو ننتقص من قدرهم ، وبينهم
كل مرب فاضل ، يحترم مهنته ، ويخلص في أداء واجبه ، غير أننا نودّ الإشارة
إلى ظاهرة خطيرة ، انتشرت واستفحل أمرها في الأعوام الأخيرة ، ذلك أننا
نرى ضعاف حملة الثانوية العامة ، تقذف بهم مكاتب التنسيق ، إلى
كليات الآداب ، ومعاهد العربية مرغمين ، او يلجؤون هم إليها ،
وفى حلوقهم غصة ، بعد أن توصد أمامهم أبواب الكليات الأخرى
وإنك لتعجب حين تلقى بين طلبة كليات الطب والعلوم والهندسة ، نوابغ
فى العربية ، يقولون الشعر ، ويتذوقون الادب ، على حين ترى الكثير ممن
يدرسون العربية ، لا يكادون يقيمون جملة ، وبينهم وبين العربية عداء
ولست أنسى في هذا المقام ، رحلة أشرفت عليها ، من طلبة قسم
اللغة العربية بآداب عين شمس ، إلى إحدى ضواحي القاهرة ، وهناك كانت
المطارحات الشعرية بعض تسليتهم ، وقد دخل بينهم في أثنائها شابان غريبان ، أظهرا براعة فائقة في هذه المطارحات ، وحين سألتهما : أنتما
من طلبة العربية ؟ قالا : لا ، بل من طلبة الطب !
وهذا الطالب ، الذى توصله الظروف المختلفة ، إلى كليات
الآداب ، غالباً ما يبحث فيها عن أي قسم سوى قسم اللغة العربية ، حتى
إذا لفظته سائر الأقسام لجأ إلى هذا القسم ، وفي نفسه مرارة ، وفى قلبه
حسرة وتؤدى نظم الامتحانات الحالية ، بما فيها من التعويض والجبر
ولجان الرأفة ، والنقل بمواد وغير ذلك ، إلى أن يتخرج هذا الطالب
الأعرج ، لينشر الجهل بين صفوف التلاميذ ، ويقذف إلى الجامعة بأجهل
منه
إننا نأسى ، ونحن نرى المستوى الثقافي ، يترنح على أيدى هؤلاء
الطلاب ، ومهما صنع أستاذ الجامعة ، فإنه فى حاجة إلى أعوام وأعوام ،لكي
تخصب هذه الأرض المجدبة ، وتؤتى أكلها ، وإلا فماذا يفعل في هذه
الخامة الرديئة ، في بضعة أعوام قليلة ، وسط الإلحاح على تخريج الأعداد
الكبيرة ، لسد حاجة المدارس إلى المعلمين ؟!
أما آن الوقت لكي ننظر إلى تعليم العربية ، في المدارس والجامعات
نظرة الجد ؟ أليس في الإمكان أن ننتقي طالب العربية ، من بين ذوي
الاستعداد ، والموهوبين من حملة الثانوية العامة ، بعد إغرائهم بمكافآت
شهرية سخية فى أثناء الدراسة ، وراتب كبير بعد التخرج ؟ ثم نصقلهم
صقلا ، ونُعدّهم إعداداً طيبا ، بعيدين عن نظام الجبر والتعويض ، ولجان
الرأفة ، إن هذا المدرس الذى نريده ، فى حاجة كبيرة إلى ثقافة عربية واسعة
شاملة ، ودراسة واعية صابرة لعيون تراثنا العربى ؛ فإن من عنده الكثير
يستطيع أن يعطي وأن يبذل ، ومن عنده القليل لا يعطي شيئا . ولقد غفلنا
عن هذه الحقيقة زمنا ، رأينا فيه من ينادي فى بعض لجان تطوير التعليم
فى مصر ، بان يقتصر في إعداد المدرس على تلقينه كتب العربية ، التى
تدرس فى مراحل التعليم العام ، وأنه لا داعي لأن يدرس علم الأصوات
اللغوية ، أو النظريات المختلفة لفقه اللغة ، أو التيارات الأدبية العالمية ،
أو العروض والقوافى ؛ لأن ذلك – فى زعمهم – لا يفيد المدرس فى عمله
المستقبل ، فى مدارس التعليم العام !
أما آن الوقت كذلك ، لكى ندرك أهمية المرحلة الابتدائية ، فى بناء
الكيان التربوي السليم للطفولة البريئة ، فنكفّ عن امتهان معلم هذه
المرحلة ، ونؤمن بما آمنت به بعض الدول المتقدمة ، من وضع خيرة المعلمين
في هذه المرحلة ؟ إن الحديث عن معلم المرحلة الابتدائية ، حديث
ذو شجون ، فإننا ما زلنا نظن أن تعليم الطفل أهون أنواع التعليم ، وأدى هذا
إلى أننا أصبحنا نقيس مقدار المعلم ، بعمر الطفل الذى يتولى تربيته
وتعليمه ، صعودا وهبوطا ، فمعلم الإعدادي أكثر احتراما من معلم
الابتدائى ، وأقل مركزا من مدرس المدارس الثانوية ... وهى فكرة ساذجة ،
مدمّرة لنفس هذا المعلم ، الذى وضعنا بين يديه هذه العجينة اللينة – طفل
اليوم ، ورجل المستقبل ؛ ليجعل منه مواطنا صالحا ، أو شيطانا مارداً
إن الدول المتحضرة ترعى هذا المعلم، وتعدّه حجر الأساس
في العملية التربوية كلها ، وتختاره من أكفء المدرسين فى المراحل الأخرى ،
وتغدق عليه المال وتكرمه ؛ ليعيش فى حالة استقرار وقناعة ، ومعظم معلمي
المرحلة الأولى ، فى كثير من الدول المتحضرة ، يحملون أرقى شهادات علم
النفس والتربية ، لكى يتسنى لهم فهم تلك البراعم الصغيرة ، فيلقنوهم
العلم ، وهم قريبون إليهم ، يلتصقون بهم ، ويلعبون معهم
نعم .. فهذه المرحلة هى أهم المراحل ، وهى التى يحبو فيها الطفل
على مدارج القراءة ، ويعشق فيها الكتاب ، أو يكرهه ، ويقبل على اللغة ،
أو يمقتها إلى الأبد.
الطريق الأمثل إلى تعلم العربية
كثر البحث عن السر في إخفاقنا حتى الآن ، في تعليم العربية
الفصحى لأبنائنا ، كما ينبغى ، فلم تفلح مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا
عموما ، فى إنشاء علاقة الود بين المتعلمين وهذه اللغة ، ولم تنجح فى غرس حب القراءة في النشء منذ الصغر، ولعل السبب فى ذلك يرجع بعضه إلى اعتقاد الكثيرين منا ، بأن في تعليم قواعد اللغة تعليما للغة ، وتفكيرنا فى الأمر على هذا النحو
كتفكير من يعلم قواعد العروض ، لكى ينشىء شاعرا ، أو كتفكير من
يحفظ صفحتين في قواعد قيادة السيارات ، ثم يظن أنه بهذا الحفظ
وحده ، قد أصبح سائقا ماهراً ، فإن اهتهامنا بتعليم القواعد النحوية ،
فى مرحلة مبكرة من حياة الطفل ، جعلنا نظن أن مقياس إجادة اللغة ، هو
البراعة في حفظ المصطلحات النحوية ، والتفنّن فى عدّ مسوغات الابتداء
بالنكرة ، ومجيء الحال معرفة ، وأحوال الصفة المشبهة ، وما إلى ذلك
كل هذه الأمور أمثالها ، يردّدها التلميذ ، في هذه السنّ المبكرة
بلا وعي، ثم ينساها عقب الفراغ من الامتحان ، ولا يبقى فى ذهنه منها
إلا التندر على صعوبة اللغة العربية ، وما لاقاه في تعلمها من عنت ومشقة
وإنى الست بهذا أحط من أهمية قواعد اللغة ، ولا أقلل من قدرها ،
في الوقوف على سر اللغة والتمكن منها ، ولكنني أحذر من وضعها في المقام
الأول ، ونسيان الفطرة التى جبل عليها الإنسان فى تعلم اللغة ، خذ لغة
التخاطب مثلا ، وانظر كيف يتعلمها الطفل ؟ إننا لا نشرح له أية قاعدة
من قواعدها ، ولكن الذى يحدث هو أننا نتكلم ، والطفل يحاكي ويقلد ،
حتى إذا أخطأ ، لا يجد من حوله يشرحون له القاعدة ، وإنما يكررون
الصواب أمامه ... وهكذا ، وعن هذا الطريق وحده ، يلم الطفل بتراكيب
اللغة ومعانيها ، حفظا وفهما ، ويهضم كل ذلك ثم يقيس عليه ، ويكتمل
نضج لغة الخطاب لديه ، في وقت قصير ، دون أن يعلم شيئا من قواعدها
وقوانينها وضوابطها، وإذا كان هذا هو المنهج الفطرى فى تعدم اللغة ، فلماذا لا نفيد منه في تعلم العربية الفصحى ؟ حقا إن العربية الفصحى ، لا يتكلمها الناس
في كل وقت حول التلميذ ، كما نتحدث بالعامية أمام الطفل ، ولكن هناك
طريقا آخر يقوم مقام السماع ، وهو طريق القراءة ، قراءة النصوص الأدبية
القديمة ، وما نسج على نمطها فى العصور المختلفة ، قراءة واعية صابرة ، مع
حفظ الكثير والكثير جدا ، من هذه النصوص الجيدة ، شعرا ونثرا ،
وعلى رأس هذه النصوص جميعها بالطبع ، نص القرآن العظيم . وفى هذه
الحالة تتكون الملكة القادرة على محاكاة هذه النصوص ، والنسج على منوالها
ولقد نادى بمثل ذلك ابن خلدون فقال في مقدمته :
ووجه التعليم لمن يبتغى هذه الملكة ، ويروم تحصيلها ، ان يأخذ نفسه
بحفظ كلامهم القديم ، الجاري على أساليبهم ، من القرآن والحديث ، وكلام
السلف ، ومخاطبات فحول العرب فى أسجاعهم و أشعارهم ، وكلمات
المولدين أيضا في سائر فنونهم حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من
المنظوم والمنثور ، منزلة من عاش بينهم ، ولقن العبارة منهم
هذا ما قاله ابن خلدون . وإنه لا شىء أجدى على من يريد تعلم
ما ، من الاستماع إليها ، والقراءة الكثيرة في تراثها ، وحفظ الجيد
من نصوصها ، وإذا كنا أمام الفصحى ، لا ننعم بالوسيلة الأولى ، وهى
الاستماع ، إذ أكثر ما نسمعه عامي أو فصيح ملحون ، أو ملي ء بالخطأ
أو ركيك العبارة ، ضحل المضمون ، فلا تزال أمامنا فرصة الإفادة ، من
القراءة الواعية للنصوص الجيدة ، وعندئذ تتكون السيقة اللغوية عند أبناء
العربية ، وتجري ألسنتهم بالفصحى العذبة ، وتأتى دروس القواعد ، فتنظم
هذا الكيان اللغوى ، الذى نما وترعرع ، في ظل النصوص
وإذا كان لقراءة هذا الجانب العظيم من الأهمية ، في الوصول
إلى اكتساب السليقة اللغوية ، فإن الكتاب المدرسي ، تبرز أهميته القصوى
في هذا المجال ، وفى تصورى أن الكتاب المدرسي الجيد ، هو الذى يكون
ملائما لسن الطفل ، وقريبا من لغته ، كما تكون موضوعاته وأمثلته ، متصلة
بالبيئة التى يعيش فيها هذا الطفل. وكل هذه الامور تتفاوت الجهات
المسؤولة ، عن الكتب المدرسية فى البلاد العربية ، في مراعاتها قدر
الطاقة، غير أنني أتناول هنا ناحية خطيرة ، فى إعداد هذا الكتاب ، أجدها
مسئولة عن بعض الضعف الذى نعانى منها في لغتنا العربية ؛ ذلك هو
ما درجنا عليه ، من كتابة كثير من الكلمات ، عارية عن الضبط
بالشكل ، فى الكتاب المدرسى المقرر في تلك الفترة المبكرة من حياة
الطفل ؛ فقد يستطيع هذا الطفل أو ذاك ، أن ينطق كلمة سمع نطقها ،
وتعلمه في مدرسته ، غير أنه يقف عاجزاً مكتوف الأيدى أمام كلمة
أخرى ، لم يقرأها من قبل ، حتى وإن عرف حروفها وهجاءها ؛ ذلك لأن
رموز نصف الأصوات في الكلمة مفقود تماما ، وهي رموز الحركات ،
فحروف مثل : (ك ت ب ) ، لا يدري الطفل كيف تنطق ؛ لأنها
تحتمل عدة أوجه في القراءة ، بسبب عدم ضبطها بالحركات ، وهذا معوّق
كبير عن القراءة ، يزيد من كراهية الطفل للتعليم ، ويحبط العملية التعليمية
وإننا لنعجب حقا من تهاوننا في طباعة هذه النصوص ، بلا شكل
أحيانا ، وببعض الشكل أحيانا أخرى ؟ إننا بهذا الخط الخالي من
التشكيل ، نفهم أولا ، لكى نقرأ قراءة صحيحة ، وفى كل لغات العالم
يقرأ الناس ليفهموا ، وإن هذا الخط الخالي من التشكيل ، هو المسؤول عن
الخطأ في ضبط بنية الكلمة ، فلماذا لا نقضي على هذه الآفة الخطيرة
بتشكيل جميع الكتب المدرسية ، حتى مراحل متأخرة تشكيلا كاملا ،
فيتعوّد التلميذ على النطق السليم : لأبنية الكلام وهو ما لا يضبط بقاعدة
في كثير من الأحيان ، ولابد فيه من السماع هذا هو دور القراءة الواعية ، فى تعلم اللغة الفصحى ، ولكن هلفقدنا حقا الوسيلة الأصلية في تعلم اللغة ، وهى : السماع ؟ إن وسائل الإعلام السمعية ( الراديو والتلفاز ) يمكن أن تسهم بدور فعال
فى الوصول إلى نتيجة مرضية في تعلم الفصحى ، غير أن الذى يحدث
للأسف الشديد ، هو طغيان العاميات في كل يوم على الإذاعات العربية ،
فتخسر الفصحى إحدى قلاعها الحصينة ، وتفوت الفرصة الذهبية ، لتعلم اللغة
عن طريق السماع ، إنك لتعجب حين ترى بعض المتعلمين ، ينطق اللغة الأجنبية
على وجهها الصحيح ، حتى إذا رام الحديث بالعربية الفصحى تلعثم
وارتبك ، وأخطأ ولحن ، وصحّف وحرّف ، وخلطها بالردىء من
الأساليب العامية ، كمن يخلط عملا صالحا بآخر سيىء ، وما ذلك إلا
لأنه لا يسمع الفصحى ، إلا فى حجرة الدراسة أحيانا ، حتى إذا خرج إلى
الشارع ، ملأت العامية سمعه وبصره فى كل مكان ، فخلّطت عليه أمره ،
وردّته عن الفصحى أيمّا ردّ ، وعاقته عن تملك زمامها ، والسيطرة عليها
ولقد كان الأمل كبيراً ، في أن تقوم وسائل الإعلام المختلفة ، بسد
هذا النقص ، وتقويم هذا الميل فى ميزان الفصحى والعامية ، فلا يقتصر
سماع الطالب للفصحى ، على دروس المدرسة ، بل تحيط به لغتنا الجميلة
من كل مكان ، وتأخذ عليه جهاته الأربع ، فتتمكن من قلبه ، ويجرى بها
لسانه ، وتصير لغة سليقة له، كان الأمل كبيرا ، في أن يدير الطالب مفتاح المذياع مثلا،
فلا يسمع إلا الفصحى فى كل شىء :فى النشرات ، والتعليقات ، والبرامج
وغيرها ولكن الذى يحدث في كثير من الإذاعات العربية ، هو طغيان اللهجات المحلية على برامجها وموادها ،فإذا سألت المشرفين على هذه الإذاعات ، والقائمين
على التخطيط فيها ، عن أسباب هذه العلة ، التى أزمنت وطال عليها
الأمد ، سمعت منهم حجة غريبة ، وعلة عجيبة ؛ ذلك أنهم يقولون
الجمهور يريد البث باللغة العامية ، وينفر من البرامج الفصيحة !
وينسى هؤلاء القوم أن وسائل الإعلام ، يجب ان تكون موجهة
لا موجهه ، وهذا يعنى أنها لا يصح أن تتملق عواطف الجمهور ، أو تجري
وراء نزواته ، بل يجب أن توجهه وتأخذ بيده ، وتقوده إلى حيث تريد ، فلهذا
السبب وجدت ، ومن أجله تعمل ، فلا يصح أن تنسى وظيفتها الأصلية ،
وتنساق خلف تحقيق الرغبات الجامحة للجمهور الكسول،
لقد كان المطربون والمطربات فى العصر العباسى ، يتغنون بالشعر
العربى الفصيح ، فيذيعون هذا الشعر ، ويعملون على رواج سوق الأدب ،
ونشر الفصحى بين الناس ، ولقد تُغنيَ في عصرنا الحديث ، بالقصائد
الطوال ، من الشعر الفصيح ، فما ازور عنه الجمهور ، ولا مل الاستماع إليه [ وهو رحمه الله تعالى يضرب ها هنا المثل فقط ]...قد يقال : إن نسبة كبيرة من الجماهير العربية ، من الأميين الذين لا يعرفون هذه الفصحى ولا يفهمونها ، فلا يصح أن نخاطبهم بلغة
تعلو عن مستواهم ، أو توجههم بأسلوب ، لا يلقى عندهم صدى أوقبولا ولكن ... من قال إن العربية الفصحى ، تعني التقعر والتشدق واختيار الألفاظ الحوشية ، والأساليب الغريبة في اللغة ؟ إن هذا الجمهور نفسه ، هو الذى يستمع إلى خطبة الجمعة بالفصحى السهلة ، فيفهمها ويعيها ، ولا ينفر منها وليكن ما يقوله هؤلاء صوابا ... أفَيَصح أن نجعل النصيب الأوفر من البرامج بالعامية من أجل الأميين ؟ إنّ ما يحدث من طغيان العامية ،
في البرامج في الإذاعات العربية ، لا نظير له فى أية إذاعة أوربية مثلا ، مع كثرة اللهجات المحلية هناك ، وما ذلك إلا لأن أصحابها آمنوا بالوظيفة الأولى للإذاعة ، وهي التوجيه لا الانقياد .!انتهى كلامه رحمه الله تعالى ،وقد ذكر رحمه الله الظرف الخاص الذي تعيشه لغتنا العربية وهو ارتباطها بكتاب الله جلّ وعلا بالقرآن المجيد ،لقد نزل القرآن الكريم بهذه اللغة المباركة على نمط يعجز قليله وكثيره معا ،وأفاض عليها من الحسن والقداسة ما يضمن لها البقاء ببقاءه حتى تقوم الساعة ،قال الله جل وعلاإنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون [الحجر:9] وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق على صحته أن معجزته العظيمة الظاهرة هي القرآن وأنّه بهذا القرآن العظيم يكون أكثر الأنبياء تابعا يوم القيامة فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ،وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ،فأرجو ان أكون أكثرهم تابعا يوما القيامة متفق عليه ،قال الحافظ ابن حجر : قوله صلى الله عليه وسلموإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّأي إن معجزتي التي تحدّيت بها الوحي الذي أنزل علي وهو القرآن ،قال الله تبارك وتعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلموإنّك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم [النمل : 6]وقال جل جلاله -: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف43/44] و هكذا أوجد الإسلام ارتباطا بين القرآن المجيد و بين اللغة العربية ثم فرضه فرضا ،وكان من أثر هذا الارتباط المبارك أن عادت على اللغة العربية جهود وثمرات لم يبذلها أصحابها يوم بذلوها إلا خدمة لهذا الدين العظيم ،قال الدكتور شوقي ضيف رحمه الله: أحال القرآن الكريم العربية من لغة بدوية بسيطة إلى لغة متحضرة ذات دين سماوي بكل مايرتبط به من إيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ومن عبادات يؤديها المسلم من صلاة وصوم وزكاة وحج مع التمسك بمكارم الأخلاق في السلوك مع قيم مثالية عقلية واجتماعية وإنسانية ،وأيضا كان ان صفى اللغة من أكدارها وهذبها وجعل منها لغة تعليمية لها أصولها وقواعدها وأظهرها مظهرا يقضى العجب منه لأنّه جلّاها على التاريخ كله لا على جيل العرب بخاصته ،فأضحت به لغة قريش عالمية قوية أرغمت أنوف الفصحاء ،وفاقت جميع لغات الدنيا ولهذا بهتوا لها حين لم يتبينوا أكانوا يسمعون بها صوت الحاضر أم صوت المستقبل أم صوت الخلود ،لأنها هي لغتهم التي يعرفونها و لكن في جزالة لم يمضغ لها شيح ولا قيصوم قال القاضي عياض رحمه الله تعالى اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ: أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ الْعَزِيزَ مُنْطَوٍ عَلَى وُجُوهٍ مِنَ الْإِعْجَازِ كَثِيرَةٍ : منهاحُسْنُ تَأْلِيفِهِ، والتئام كلمه، وفصاحته و وجوه إِيجَازِهِ، وَبَلَاغَتُهُ الْخَارِقَةُ عَادَةَ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَابَ هَذَا الشَّأْنِ، وَفُرْسَانَ الْكَلَامِ..
قَدْ خصّوا من البلاغة والحكم ما لَمْ يُخَصَّ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَأُوتُوا مِنْ ذَرَابَةِ اللِّسَانِ مَا لَمْ يُؤْتَ إِنْسَانٌ، وَمِنْ فَصْلِ الْخِطَابِ مَا يُقَيِّدُ الْأَلْبَابَ، جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ طَبْعًا وَخِلْقَةً، وَفِيهِمْ غَرِيزَةً وَقُوَّةً.. يَأْتُونَ مِنْهُ عَلَى الْبَدِيهَةِ بِالْعَجَبِ، وَيُدْلُونَ بِهِ إِلَى كُلِّ سَبَبٍ فَيَخْطُبُونَ بَدِيهًا فِي الْمَقَامَاتِ، وَشَدِيدِ الْخُطَبِ (الخطْب)وَيَرْتَجِزُونَ بِهِ بَيْنَ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ، وَيَمْدَحُونَ وَيَقْدَحُونَ، وَيَتَوَسَّلُونَ وَيَتَوَصَّلُونَ، وَيَرْفَعُونَ وَيَضَعُونَ، فَيَأْتُونَ مِنْ ذَلِكَ بِالسِّحْرِ الْحَلَالِ، وَيُطَوِّقُونَ مِنْ أَوْصَافِهِمْ أَجْمَلَ مِنْ سِمْطِ اللَّآلِ، فَيَخْدَعُونَ الْأَلْبَابَ وَيُذَلِّلُونَ الصِّعَابَ، وَيُذْهِبُونَ الْإِحَنَ وَيُهَيِّجُونَ الدِّمَنَ ، وَيُجَرِّؤونَ الْجَبَانَ، وَيَبْسُطُونَ يَدَ الْجَعْدِ الْبَنَانِ: وَيُصَيِّرُونَ النَّاقِصَ كاملا وَيَتْرُكُونَ النَّبِيهَ خَامِلًا مِنْهُمُ الْبَدَوِيُّ ذُو اللَّفْظِ الْجَزْلِ ، وَالْقَوْلِ الْفَصْلِ وَالْكَلَامِ الْفَخْمِ، وَالطَّبْعِ الْجَوْهَرِيِّ وَالْمَنْزَعِ الْقَوِيِّ.
وَمِنْهُمُ الْحَضَرِيُّ ذُو الْبَلَاغَةِ الْبَارِعَةِ وَالْأَلْفَاظِ النَّاصِعَةِ.. وَالْكَلِمَاتِ الْجَامِعَةِ، وَالطَّبْعِ السَّهْلِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي الْقَوْلِ الْقَلِيلِ الْكُلْفَةِ الْكَثِيرِ الرَّوْنَقِ، الرَّقِيقِ الحاشية .. وكلا البابين فلهما في البلاغة الحجة البالغة، والقوة الدامغة والقدح الفالج والمهيع النَّاهِجُ .. لَا يَشُكُّونَ أَنَّ الْكَلَامَ طَوْعُ مُرَادِهِمْ، وَالْبَلَاغَةَ مِلْكُ قِيَادِهِمْ.. قَدْ حَوَوْا فُنُونَهَا وَاسْتَنْبَطُوا عُيُونَهَا.. وَدَخَلُوا مِنْ كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا.. وَعَلَوْا صَرْحًا لِبُلُوغِ أَسْبَابِهَا. فَقَالُوا فِي الْخَطِيرِ وَالْمَهِينِ، وَتَفَنَّنُوا فِي الْغَثِّ وَالسَّمِينِ.. وَتَقَاوَلُوا فِي الْقُلِّ وَالْكُثْرِ وَتَسَاجَلُوا فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ.. فَمَا رَاعَهُمْ إِلَّا رَسُولٌ كَرِيمٌ.. بِكِتَابٍ «عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ » أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ، وَفُصِّلَتْ كَلِمَاتُهُ، وَبَهَرَتْ بَلَاغَتُهُ الْعُقُولَ.. وَظَهَرَتْ فَصَاحَتُهُ عَلَى كُلِّ مَقُولٍ.. وَتَظَافَرَ إِيجَازُهُ وَإِعْجَازُهُ.. وَتَبَارَتْ فِي الْحُسْنِ مَطَالِعُهُ وَمَقَاطِعُهُ.. وَحَوَتْ كُلَّ الْبَيَانِ جَوَامِعُهُ وَبَدَائِعُهُ وَاعْتَدَلَ مَعَ إِيجَازِهِ حُسْنُ نَظْمِهِ.. وَانْطَبَقَ عَلَى كَثْرَةِ فَوَائِدِهِ مُخْتَارُ لَفْظِهِ.. وَهُمْ أَفْسَحُ مَا كانوا في هذا الباب مجالا.. وأشهر فِي الْخَطَابَةِ رِجَالًا.. وَأَكْثَرُ فِي السَّجْعِ وَالشِّعْرِ ارتجالًا.. وَأَوْسَعُ فِي الْغَرِيبِ وَاللُّغَةِ مَقَالًا بِلُغَتِهِمُ التي بها يتحاورون، ومنازعهم التي عنها يتناضلون، صَارِخًا بِهِمْ فِي كُلٍّ حِينٍ وَمُقَرِّعًا لَهُمْ بضعا وعشرين عاما على رؤوس الْمَلَإِ أَجْمَعِينَ..«أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » «وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ إن كنم صادقين ،فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التى وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين » ثم قال القاضي رحمه الله :.
فَلَمْ يَزَلْ يُقَرِّعُهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ التَّقْرِيعِ وَيُوَبِّخُهُمْ غَايَةَ التَّوْبِيخِ، وَيُسَفِّهُ أَحْلَامَهُمْ ويحط أعلامهم، ويشتت نظامهم.. ويذم آلهتهم وآباءهم.. وَيَسْتَبِيحُ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ.. وَهُمْ فِي كُلِّ هَذَا نَاكِصُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ.. مُحْجِمُونَ عَنْ مُمَاثَلَتِهِ.. يخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب. والإغراء بِالِافْتِرَاءِ وَقَوْلِهِمْ «إن هذا إلا سحر يؤثر » » وَ «سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ » وَ «إِفْكٌ افْتَراهُ » وَ «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ » . والمباهتة والرضى بِالدَّنِيئَةِ كَقَوْلِهِمْ: «قُلُوبُنا غُلْفٌ » وَ «قلوبنا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْه وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ » وَ «لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ » ومع الادعاء بالْعَجْزِ بِقَوْلِهِمْ: «لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا » .
وَقَدْ قَالَ لَهُمُ اللَّهُ «وَلَنْ تَفْعَلُوا » فَمَا فَعَلُوا وَلَا قَدَرُوا وَمَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ مِنْ سَخائِفهم و سُخَفائهم كَمُسَيْلِمَةَ . كشف عوَارهُ لِجَمِيعِهِمْ..
وَسَلَبَهُمُ اللَّهُ مَا ألفوه من فصيح كلَامِهِمْ.. وَإِلَّا فَلَمْ يَخْفَ عَلَى أَهْلِ الْمَيْزِ منهم أنّه ليس من نمط فصاحتهم وَلَا جِنْسِ بَلَاغَتِهِمْ.. بَلْ وَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ وَأَتَوْا مُذْعِنِينَ مِنْ بَيْنِ مُهْتَدٍ وَبَيْنِ مَفْتُونٍ وَلِهَذَا لَمَّا سَمِعَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى قريش وقال : والله مامنكم رجل أعرف بالأشعار مني ولا اعلم برجزه ولا بقصيده مني ولا بأشعار الجن ،وَاللَّهِ ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ووالله إِنَّ لَقوله الذي يقوله حَلَاوَةً.. وَإِنَّ عليه لَطَلَاوَةً ، وَإِنَّه لمثمر أعلاه ،مغدق أسفله ،وإنه ليعلو ولا يعلى ،وإنه ليَحطم ماتحته أخرجه الحاكم والبيهقي في الشعب وغيرهما وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية ،وهكذا حار القوم في إجابة هذا التحدي ثم كان من أمرهم ما كان ،وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك إفتراه وأعانه عليه قوم آخرون وقالوا لا تسمعوا لهذا القرآن ولغوا فيه لعلكم تغلبون وقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه بحيث لا يبقى لعامة الناس مجال للتدبر في دعوته والتفكير فيها فكانوا يقولون عن القرآن "أضغاث أحلام يراها محمد بالليل ويتلوها بالنهار " ،ويقولون بل افتراه من عند نفسه ويقولون إنما يعلمه بشر وقالوا إن هذا إفك إفتراه وأعانه عليه قوم آخرون أي اشترك هو وزملاؤه في إختلاقه ،وقالوا أساطير الأولين إكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا وأحيانا قالوا : إن له جنا أو شيطانا يتنزل عليه كما يتنزل الجن والشياطين على الكهان فقال تعالى ردا عليهم :هل أنبئكم على من تنزّل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم ثم قمعهم القرآن وأقمأهم وأمات ذكرهم وأتى ببيان معجز موجز ،قتل فيه كل محاولة قام فيها المشركون للطعن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم أو بنزول الوحي والقرآن على قلبه ،قال الله عز وجل ولا يأتون بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا وقال تعالى قل لئن إجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا قال القاضي عياض رحمه الله : فَعَجْزُ الْعَرَبِ عَنْهُ ثَابِتٌ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بما يصح أَنْ يَكُونَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ وَتَحَدِّيهِمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ قَاطِعٌ.. وَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّعْجِيزِ، وَأَحْرَى بِالتَّقْرِيعِ .... وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَا أَتَوْا فِي ذَلِكَ بِمَقَالٍ بَلْ صَبَرُوا عَلَى الْجَلَاءِ، وَالْقَتْلِ، وَتَجَرَّعُوا كَاسَاتِ الصَّغَارِ وَالذُّلِّ، وَكَانُوا مِنْ شُمُوخِ الْآنُفِ ، وَإِبَاءَةِ الضَّيْمِ بِحَيْثُ لَا يُؤْثِرُونَ ذَلِكَ اخْتِيَارًا، وَلَا يَرْضَوْنَهُ إِلَّا اضْطِرَارًا.. وَإِلَّا فَالْمُعَارَضَةُ- لَوْ كَانَتْ مِنْ قُدَرِتهِمْ - وَالشُّغْلُ بِهَا أَهْوَنُ عَلَيْهِمْ، وَأَسْرَعُ بِالنُّجْحِ وَقَطْعِ الْعُذْرِ، وَإِفْحَامِ الْخَصْمِ لَدَيْهِمْ.. وَهُمْ مِمَّنْ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى الْكَلَامِ، وَقُدْوَةٌ فِي الْمَعْرِفَةِ بِهِ لِجَمِيعِ الْأَنَامِ، وَمَا مِنْهُمْ الا من جَهد جهدَه واستنفد مَا عِنْدَهُ فِي إِخْفَاءِ ظُهُورِهِ، وَإِطْفَاءِ نُورِهِ فَمَا جَلَوْا فِي ذَلِكَ خَبِيئَةً مِنْ بَنَاتِ شفاههم ، ولا أتوا بنطفة من معين مياههم مع طول الأبد ، وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ، وَتَظَاهُرِ الْوَالِدِ وَمَا وَلَدَ بَلْ أبلسُوا فما نبَسوا ومنعوا فانقطعوا فتركوا المعارضة لعجزهم وأقبلوا على المحاربة لجهلهم فكان حظهم مما فرّوا إليه حظهم مما فزعوا منه فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين والحمد لله رب العالمين ،العربية صيانتها صيانة للدين وتعلمها بنية صالحة من أجل فهم كتاب الله جلّ وعلا وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ومعرفة ماخطه علماؤنا من تراثنا العربي الفذ ،في الأمور الشرعية وعلوم الآلة وغير ذلك من مناحي ما خطته يراعاتهم وكتبوه ببنانهم رحمة الله عليهم ،تعلم ذلك بالإخلاص والنية الصادقة عبادة لله جلً وعلا مما يتقرب به إلى الله رب العالمين ،وإضعاف اللغة إضعاف للدين ولم يوجد قط في تاريخ هذه الأمة عالم يتشدق بأن ضعفه في اللغة العربية أمر يحمد عليه أو يثنى به عليه وإنما هي من العورات التي ينبغي أن توارى ومن السوءات التي ينبغي أن تستر ،بل إن علماء الحديث كان إذا جاءهم طالب للحديث ،فوجدوا لحنه ظاهرا ،وضعفه باديا في هذه اللغة الشريفة أمروه بأن يذهب ليتعلم هذا اللسان القويم على الصراط المستقيم وأن ذلك من أول ما يبدأ به ،فعلينا أن نتقي الله تبارك وتعالى في لغتنا ،وأن نجتهد في تعلمها والنطق بها ،وأن تتشكل عقليتنا بحسبها ،فإن العربية لغة فذة فريدة ،وهي لغة حرة ،لأن أهلها في أرومتهم لم يستعبدوا يوما من الدهر ،وهي مصفاة ومهذبة ،وهي اللغة التي أنزل بها الله تبارك وتعالى كتابه ،وذكر بها النبي صلى الله عليه وسلم حديثه وخطابه ،فتعلمها دين ،والاكباب على تعلمها تقرب الى رب العالمين بنية صالحة صادقة من أجل أن ينظر المرء في كتاب الله جل وعلا فيَعلم شيئا من إعجازه ،ويرى شيئا من آياته البيانية الباهرة واضحة جلية ،حتى يستقر في قلبه ويقينه عظمة الكتاب الذي أنزله الله رب العالمين على خاتم الأنبياء وسيد الأصفياء صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،نسأل الله رب العالمين أن يحلل عقدة من ألسنتنا ،وأن ييسر تعلم العربية لنا ،وأن ييسر لنا النطق بها على النحو العربي المستقيم بالسليقة الصحيحة خدمة لكتاب ربنا واكبابا على سنة نبينا وإقبالا على تعلم ديننا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
فرغها : الفقير إلى عفو ربه محب اللغة العربية عمر تراكة .
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
فقد تكلم أستاذنا العلامة اللغوي الكبير الدكتور رمضان عبد التواب رحمه الله تعالى عن مشكلة تعليم العربية فقال رحمه الله:يشكو كثير من الناس ، من ضعف مستوى الدارسين في اللغةالعربية، بمدارسنا وجامعاتنا، وتلك مشكلة مزمنة، طال عليها الأمد، وحارت العقول في البحث عن علتها، والإشارة إلى موطن الداء فيها... وأقصى ما كانت تمتد إليه يد الإصلاح في هذه المشكلة، هو الكتب المدرسية، والمصطلحات النحوية، ثم يعجب المصلحون، حين يرون هذا الإصلاح، لم يؤت ثماره المرجوّة، ويشاهدون انحدار المستوى يوما بعد يوم،كأننا أمام بئر ينضب ماؤها بالتدريج، ولا شىء يَرفِدُها، ويُصلِح من شأنها. ولو استمر الحال على ذلك، لجاء يوم قريب تشيع فيه الأمية بين حملة الشهادات العليا، ولقد جمعتنى منذ أعوام جلسة فى القاهرة، مع أحد المستشرقين الألمان فذكر لي أنه التقى ببعض خريجي الجامعة عندنا، فتعجب من أنهم لا يقيمون جملة عربية، ولا يدرون شيئا عن تراثهم، ولم يقرءوا للجاحظ ولا لابن قتيبة، أو للمبرد، أو لغيرهم من أعلام العربية، وتلك للأسف حقيقة مفجعة! هذه المشكلة بتلك الصورة، مشكلة تعلّم اللغة الأدبية - لم يُعانِ منها شعب كما تعانى الأمة العربية في أيامنا هذه، وهى مشكلة متعددة الجوانب ، ولست أدعي أنني سأحيط هنا بجميع نواحيها، ولكنني سأتناول بالتحديد أربع نقط بالبحث، أولها: لماذا نهتم باللغة الفصحى؟ وثانيها: هل العربية لغة صعبة؟ وثالثها: كيف ينتقى مدرس العربية؟ وكيف يعدّ؟ ورابعها: ما الطريق الأمثل إلى تعلم العربية؟
لماذا نهتم بالعربية الفصحى؟
للعربية الفصحى ظرف خاص، لم يتوفر لأية لغة من لغات العالم، وهذا الظرف يجعلنا نرفض ما ينادي به بعض الغافلين والمغرضين، من ترك الحبل على الغارب للعربية الفصحى، لكي تتفاعل مع العاميات، تأخذ
منها وتعطي، كما يحدث في اللغات كلها ... حقا إن اللغة كائن حي تتطور على ألسنة المتكلمين بها ، فينشأ من هذا التطور اختلاف بين لغة عصر والعصر الذي سبقه، وهنا يحدث الصراع بين أنصار الشكل القديم،
وأنصار الشكل الجديد، وبعد فترة يصبح قديما ما كان بالأمس جديدا، فيتصارع مع جديد آخر، وتضمحل لغة العصر الأسبق أو تندثر، غير أن كل جديد لا يظهر فجأة، ولا يقضى على القديم بين يوم وليلة، بل يظل
الصراع بينهما لفترة قد تطول أو تقصر، غير أن الانتصار يكون في النهاية للشكل الجديد، تلك سنة الحياة، وتاريخ اللغات جميعها يشهد بهذا، ولا نعرف لغة على ظهر الارض، جمدت على شكل واحد مئات السنين؛ غير أن العربية الفصحى لها – كما قلنا – ظرف لم يتوفر لأية لغة من لغات العالم، ذلك أنها ارتبطت بالقرآن الكريم، منذ أربعة عشر قرنا، ودون بها التراث العربى الضخم، الذى كان محوره القرآن الكريم، في كثير من مظاهره، وقد كفل الله تبارك وتعالى لها الحفظ ما دام يحفظ دينه، فقال عز وجل: (إنَّا نَحْنُ نَزلنَا الذكر وإنَّا لَهُ لَحَافِظونَ)، ولولا أن الله شرفها جلّ وعلا فأنزل بها كتابه، وقيّض له من خلقه من يتلوه صباح مساء، ووعد بحفظه على تعاقب الأزمان – لولا كل هذا لأمست اللغة العربية الفصحى لغة
أثرية، تشبه اللاتينية أو السنسكريتية، ولسادت اللهجات العربية المختلفة فى نواحي الأرض العربية، وازدادت على مر الزمان بعداً عن الأصل الذى انسلخت منه، هذا هو السر الذى يجعلنا لا نقيس العربية الفصحى بما يحدث في اللغات الحية المعاصرة، فإن أقصى عمر هذه اللغات، في شكلها الحاضر، لا يتعدى قرنين من الزمان ، فهي دائمة التطور والتغير، وعرضة للتفاعل مع اللغات المجاورة، تأخذ منها وتعطي، ولا تجد في كل ذلك حرجا ؛ لأنها لم ترتبط فى فترة من فترات حياتها بكتاب كريم، كما هى الحال
في العربية.
فاهتمامنا بالعربية يجب أن يكون نابعا من هذا المنطلق وهو
ارتباطها بالدين الإسلامى والتراث العربي، وإذا أصبح هذا المنطلق واضحا "في أذهان القائمين على تعليم العربية، لم يجنح بهم الحيال يوما إلى الاعتقاد بأن إجادة تعليم هذه اللغة، سيقضي على لغة الحديث اليومي تماما، فليس من اللازم أن يستخدم الناس جميعا هذه اللغة الأدبية في أحاديثهم، بل إن هذا أمر يكاد يكون مستحيلا، ولم يحدث فى أي عصر من العصور؛ فمن القواعد المقررة عند علماء اللغة أنه يستحيل على مجموعة بشرية تعيش فى مساحة أرضية شاسعة أن تصطنع في حديثها اليومى لغة
موحدة تخلو من اختلاف صوتى، أو دلالي، أو اختلاف في البنية أو التراكيب.
إن هذه قضية ليست في حاجة إلى برهنة، فاللغات التى تعيش بيننا الآن تعاني من هذه الظاهرة، ولا يمكن تجنبها في أي لغة من اللغات، وإنما الذي يمكن أن يحدث عن طريق التعليم الجاد للعربية، هو أن تقترب المسافة بين العاميات والفصحى، وأن نقرأ تراثنا الأدبي ونتمثله، ونستمد منه عظمة الماضي، وعدة الحاضر، وأمل المستقبل؛ أما فيما عدا ذلك، فيمكن للموهوبين الذين يصبح في مقدورهم محاكاة هذه اللغة الأدبية، وما أكثرهم عندئذ - أن يحاكوا هذه اللغة في أحاديثهم وكتاباتهم، على اختلاف درجاتهم فى ذلك.
هل العربية لغة صعبة ؟
يسود بين جمهرة المثقفين العرب ، شعور مدمر بأن لغتنا الجميلة ،
العربية الفصحى، لغة معقدة القواعد ، صعبة التعليم ، كثيرة الشذوذ فى مسائلها وقضاياها ، بحيث تجعل من تعلمها ، أو استخدامها وتجعل التحدث
بها ، عبئا ثقيلا على أهلها ولقد انتهز المغرضون هذه الفرصة ، وأخذوا يصيدون في الماء
العكر ، ويدعون إلى استخدام العامية ، وهجر الفصحى أو خلطها بالعامية ، وهى دعوة حمل لواءها منذ فترة طويلة ، المعادون للإسلام وأهله ؛ فادعوا أن إعراب العربية الفصحى ، أمر عسير التعليم ، ليصرفوا المسلمين
عن منبع دينهم ، وعماد شريعتهم ، ودستور حياتهم ، وهو القرآن الكريم
الذى أنزله الله عز وجل ، بهذه العربية الفصحى
والحق أن هذا الإعراب ، الذى يوصف . بأنه معقد وصعب ، لا تنفرد به العربية الفصحى وحدها ، بل إن هناك لغات كثيرة ، لا تزال تحيا بيننا ، وفيها من ظواهر الإعراب المعقد ، ما يفوق إعراب العربية بكثير ؛ فهذه هى اللغة الألمانية مثلا ، تقسم أسماءها اعتباطا إلى مذكر ومؤنث ، وجنس ثالث لا تعرفه العربية ، وهو : المحايد ، وتضع لكل من هذه الأجناس الثلاثة ، أربع حالات إعرابية ، هى حالات : الفاعلية
والمفعولية ، والإضافة ، والقابلية ، وهذه الحالة الأخيرة ، لا تعرفها العربية ، وهى إعراب المفعول الثانى ، فهى من حالات المفعولية في العربية ، وليست
حالة خاصة فيها . تلك هى حالات إعراب الاسم المفرد المعرف فى الألمانية
والمفرد المنكر له أربع حالات أخرى ، وكذلك الجمع المعرف والجمع المنكر
وبناء الجملة في اللغة الألمانية ، له نظام صارم ، فالفعل يحتل فيها
المرتبة الثانية دائما ، إلا في الجمل الفرعية ، كالجمل التعليلية مثلا ، فإن
الفعل يؤخر فيها إلى نهاية الجملة، وإن من يشكو من كثرة جموع التكسير
فى العربية ، وغلبة الشذوذ على قواعد هذا الجمع فيها ، سيحمد للعربية
الاطراد النسبي فى هذه القواعد ، إذا درس اللغة الألمانية ، ورأى كثرة صيغ
هذه الجموع فيها ، وفقدان القاعدة التى تخضع لها تماما ، إلى درجة أن كل
كتاب في تعليم قواعد الألمانية ، تبدأ صفحاته الأولى بهذه العبارة : « احفظ
مع كل اسم ، أداة تعريفه ، وصيغة جمعه ؛ لانه ليست هناك قاعدةلذلك »
فليست العربية إذن ، بدعا بين اللغات ، في صعوبة القواعد ، غير
أن شيئا من هذه الصعوبة ، يعود بالتأكيد ، إلى طريقة عرض النحويين
لقواعدها ، فقد خلطوا في هذه القواعد بين الواقع اللغوي والمنطق العقلي
وبعدوا عن وصف هذا الواقع إلى المماحكات اللفظية ، وامتلأت كتبهم
بالجدل والخلافات العقيمة ، فضلّ المتعلم وسط هذا الركام الهائل من الآراء
المتناقضة فى بعض الأحيان . والحقيقة أن القواعد الأساسية لنحو اللغة
العربية ، يمكن أن تستخلص فى صفحات قليلة ، مصفاة من هذا الحشو الذى لا طائل وراءه.
كيف ينتقى مدرس العربية وكيف يعدّ ؟
يمثل مدرس العربية حجر الزاوية ، في هذه المشكلة التى نعالجها ،
وإليه يوجّه اللوم عادة فى الوصول إلى هذه النتيجة ، التى وصل إليها تعليم
العربية فى بلادنا . ولسنا هنا نتهم المعلمين ، أو ننتقص من قدرهم ، وبينهم
كل مرب فاضل ، يحترم مهنته ، ويخلص في أداء واجبه ، غير أننا نودّ الإشارة
إلى ظاهرة خطيرة ، انتشرت واستفحل أمرها في الأعوام الأخيرة ، ذلك أننا
نرى ضعاف حملة الثانوية العامة ، تقذف بهم مكاتب التنسيق ، إلى
كليات الآداب ، ومعاهد العربية مرغمين ، او يلجؤون هم إليها ،
وفى حلوقهم غصة ، بعد أن توصد أمامهم أبواب الكليات الأخرى
وإنك لتعجب حين تلقى بين طلبة كليات الطب والعلوم والهندسة ، نوابغ
فى العربية ، يقولون الشعر ، ويتذوقون الادب ، على حين ترى الكثير ممن
يدرسون العربية ، لا يكادون يقيمون جملة ، وبينهم وبين العربية عداء
ولست أنسى في هذا المقام ، رحلة أشرفت عليها ، من طلبة قسم
اللغة العربية بآداب عين شمس ، إلى إحدى ضواحي القاهرة ، وهناك كانت
المطارحات الشعرية بعض تسليتهم ، وقد دخل بينهم في أثنائها شابان غريبان ، أظهرا براعة فائقة في هذه المطارحات ، وحين سألتهما : أنتما
من طلبة العربية ؟ قالا : لا ، بل من طلبة الطب !
وهذا الطالب ، الذى توصله الظروف المختلفة ، إلى كليات
الآداب ، غالباً ما يبحث فيها عن أي قسم سوى قسم اللغة العربية ، حتى
إذا لفظته سائر الأقسام لجأ إلى هذا القسم ، وفي نفسه مرارة ، وفى قلبه
حسرة وتؤدى نظم الامتحانات الحالية ، بما فيها من التعويض والجبر
ولجان الرأفة ، والنقل بمواد وغير ذلك ، إلى أن يتخرج هذا الطالب
الأعرج ، لينشر الجهل بين صفوف التلاميذ ، ويقذف إلى الجامعة بأجهل
منه
إننا نأسى ، ونحن نرى المستوى الثقافي ، يترنح على أيدى هؤلاء
الطلاب ، ومهما صنع أستاذ الجامعة ، فإنه فى حاجة إلى أعوام وأعوام ،لكي
تخصب هذه الأرض المجدبة ، وتؤتى أكلها ، وإلا فماذا يفعل في هذه
الخامة الرديئة ، في بضعة أعوام قليلة ، وسط الإلحاح على تخريج الأعداد
الكبيرة ، لسد حاجة المدارس إلى المعلمين ؟!
أما آن الوقت لكي ننظر إلى تعليم العربية ، في المدارس والجامعات
نظرة الجد ؟ أليس في الإمكان أن ننتقي طالب العربية ، من بين ذوي
الاستعداد ، والموهوبين من حملة الثانوية العامة ، بعد إغرائهم بمكافآت
شهرية سخية فى أثناء الدراسة ، وراتب كبير بعد التخرج ؟ ثم نصقلهم
صقلا ، ونُعدّهم إعداداً طيبا ، بعيدين عن نظام الجبر والتعويض ، ولجان
الرأفة ، إن هذا المدرس الذى نريده ، فى حاجة كبيرة إلى ثقافة عربية واسعة
شاملة ، ودراسة واعية صابرة لعيون تراثنا العربى ؛ فإن من عنده الكثير
يستطيع أن يعطي وأن يبذل ، ومن عنده القليل لا يعطي شيئا . ولقد غفلنا
عن هذه الحقيقة زمنا ، رأينا فيه من ينادي فى بعض لجان تطوير التعليم
فى مصر ، بان يقتصر في إعداد المدرس على تلقينه كتب العربية ، التى
تدرس فى مراحل التعليم العام ، وأنه لا داعي لأن يدرس علم الأصوات
اللغوية ، أو النظريات المختلفة لفقه اللغة ، أو التيارات الأدبية العالمية ،
أو العروض والقوافى ؛ لأن ذلك – فى زعمهم – لا يفيد المدرس فى عمله
المستقبل ، فى مدارس التعليم العام !
أما آن الوقت كذلك ، لكى ندرك أهمية المرحلة الابتدائية ، فى بناء
الكيان التربوي السليم للطفولة البريئة ، فنكفّ عن امتهان معلم هذه
المرحلة ، ونؤمن بما آمنت به بعض الدول المتقدمة ، من وضع خيرة المعلمين
في هذه المرحلة ؟ إن الحديث عن معلم المرحلة الابتدائية ، حديث
ذو شجون ، فإننا ما زلنا نظن أن تعليم الطفل أهون أنواع التعليم ، وأدى هذا
إلى أننا أصبحنا نقيس مقدار المعلم ، بعمر الطفل الذى يتولى تربيته
وتعليمه ، صعودا وهبوطا ، فمعلم الإعدادي أكثر احتراما من معلم
الابتدائى ، وأقل مركزا من مدرس المدارس الثانوية ... وهى فكرة ساذجة ،
مدمّرة لنفس هذا المعلم ، الذى وضعنا بين يديه هذه العجينة اللينة – طفل
اليوم ، ورجل المستقبل ؛ ليجعل منه مواطنا صالحا ، أو شيطانا مارداً
إن الدول المتحضرة ترعى هذا المعلم، وتعدّه حجر الأساس
في العملية التربوية كلها ، وتختاره من أكفء المدرسين فى المراحل الأخرى ،
وتغدق عليه المال وتكرمه ؛ ليعيش فى حالة استقرار وقناعة ، ومعظم معلمي
المرحلة الأولى ، فى كثير من الدول المتحضرة ، يحملون أرقى شهادات علم
النفس والتربية ، لكى يتسنى لهم فهم تلك البراعم الصغيرة ، فيلقنوهم
العلم ، وهم قريبون إليهم ، يلتصقون بهم ، ويلعبون معهم
نعم .. فهذه المرحلة هى أهم المراحل ، وهى التى يحبو فيها الطفل
على مدارج القراءة ، ويعشق فيها الكتاب ، أو يكرهه ، ويقبل على اللغة ،
أو يمقتها إلى الأبد.
الطريق الأمثل إلى تعلم العربية
كثر البحث عن السر في إخفاقنا حتى الآن ، في تعليم العربية
الفصحى لأبنائنا ، كما ينبغى ، فلم تفلح مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا
عموما ، فى إنشاء علاقة الود بين المتعلمين وهذه اللغة ، ولم تنجح فى غرس حب القراءة في النشء منذ الصغر، ولعل السبب فى ذلك يرجع بعضه إلى اعتقاد الكثيرين منا ، بأن في تعليم قواعد اللغة تعليما للغة ، وتفكيرنا فى الأمر على هذا النحو
كتفكير من يعلم قواعد العروض ، لكى ينشىء شاعرا ، أو كتفكير من
يحفظ صفحتين في قواعد قيادة السيارات ، ثم يظن أنه بهذا الحفظ
وحده ، قد أصبح سائقا ماهراً ، فإن اهتهامنا بتعليم القواعد النحوية ،
فى مرحلة مبكرة من حياة الطفل ، جعلنا نظن أن مقياس إجادة اللغة ، هو
البراعة في حفظ المصطلحات النحوية ، والتفنّن فى عدّ مسوغات الابتداء
بالنكرة ، ومجيء الحال معرفة ، وأحوال الصفة المشبهة ، وما إلى ذلك
كل هذه الأمور أمثالها ، يردّدها التلميذ ، في هذه السنّ المبكرة
بلا وعي، ثم ينساها عقب الفراغ من الامتحان ، ولا يبقى فى ذهنه منها
إلا التندر على صعوبة اللغة العربية ، وما لاقاه في تعلمها من عنت ومشقة
وإنى الست بهذا أحط من أهمية قواعد اللغة ، ولا أقلل من قدرها ،
في الوقوف على سر اللغة والتمكن منها ، ولكنني أحذر من وضعها في المقام
الأول ، ونسيان الفطرة التى جبل عليها الإنسان فى تعلم اللغة ، خذ لغة
التخاطب مثلا ، وانظر كيف يتعلمها الطفل ؟ إننا لا نشرح له أية قاعدة
من قواعدها ، ولكن الذى يحدث هو أننا نتكلم ، والطفل يحاكي ويقلد ،
حتى إذا أخطأ ، لا يجد من حوله يشرحون له القاعدة ، وإنما يكررون
الصواب أمامه ... وهكذا ، وعن هذا الطريق وحده ، يلم الطفل بتراكيب
اللغة ومعانيها ، حفظا وفهما ، ويهضم كل ذلك ثم يقيس عليه ، ويكتمل
نضج لغة الخطاب لديه ، في وقت قصير ، دون أن يعلم شيئا من قواعدها
وقوانينها وضوابطها، وإذا كان هذا هو المنهج الفطرى فى تعدم اللغة ، فلماذا لا نفيد منه في تعلم العربية الفصحى ؟ حقا إن العربية الفصحى ، لا يتكلمها الناس
في كل وقت حول التلميذ ، كما نتحدث بالعامية أمام الطفل ، ولكن هناك
طريقا آخر يقوم مقام السماع ، وهو طريق القراءة ، قراءة النصوص الأدبية
القديمة ، وما نسج على نمطها فى العصور المختلفة ، قراءة واعية صابرة ، مع
حفظ الكثير والكثير جدا ، من هذه النصوص الجيدة ، شعرا ونثرا ،
وعلى رأس هذه النصوص جميعها بالطبع ، نص القرآن العظيم . وفى هذه
الحالة تتكون الملكة القادرة على محاكاة هذه النصوص ، والنسج على منوالها
ولقد نادى بمثل ذلك ابن خلدون فقال في مقدمته :
ووجه التعليم لمن يبتغى هذه الملكة ، ويروم تحصيلها ، ان يأخذ نفسه
بحفظ كلامهم القديم ، الجاري على أساليبهم ، من القرآن والحديث ، وكلام
السلف ، ومخاطبات فحول العرب فى أسجاعهم و أشعارهم ، وكلمات
المولدين أيضا في سائر فنونهم حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من
المنظوم والمنثور ، منزلة من عاش بينهم ، ولقن العبارة منهم
هذا ما قاله ابن خلدون . وإنه لا شىء أجدى على من يريد تعلم
ما ، من الاستماع إليها ، والقراءة الكثيرة في تراثها ، وحفظ الجيد
من نصوصها ، وإذا كنا أمام الفصحى ، لا ننعم بالوسيلة الأولى ، وهى
الاستماع ، إذ أكثر ما نسمعه عامي أو فصيح ملحون ، أو ملي ء بالخطأ
أو ركيك العبارة ، ضحل المضمون ، فلا تزال أمامنا فرصة الإفادة ، من
القراءة الواعية للنصوص الجيدة ، وعندئذ تتكون السيقة اللغوية عند أبناء
العربية ، وتجري ألسنتهم بالفصحى العذبة ، وتأتى دروس القواعد ، فتنظم
هذا الكيان اللغوى ، الذى نما وترعرع ، في ظل النصوص
وإذا كان لقراءة هذا الجانب العظيم من الأهمية ، في الوصول
إلى اكتساب السليقة اللغوية ، فإن الكتاب المدرسي ، تبرز أهميته القصوى
في هذا المجال ، وفى تصورى أن الكتاب المدرسي الجيد ، هو الذى يكون
ملائما لسن الطفل ، وقريبا من لغته ، كما تكون موضوعاته وأمثلته ، متصلة
بالبيئة التى يعيش فيها هذا الطفل. وكل هذه الامور تتفاوت الجهات
المسؤولة ، عن الكتب المدرسية فى البلاد العربية ، في مراعاتها قدر
الطاقة، غير أنني أتناول هنا ناحية خطيرة ، فى إعداد هذا الكتاب ، أجدها
مسئولة عن بعض الضعف الذى نعانى منها في لغتنا العربية ؛ ذلك هو
ما درجنا عليه ، من كتابة كثير من الكلمات ، عارية عن الضبط
بالشكل ، فى الكتاب المدرسى المقرر في تلك الفترة المبكرة من حياة
الطفل ؛ فقد يستطيع هذا الطفل أو ذاك ، أن ينطق كلمة سمع نطقها ،
وتعلمه في مدرسته ، غير أنه يقف عاجزاً مكتوف الأيدى أمام كلمة
أخرى ، لم يقرأها من قبل ، حتى وإن عرف حروفها وهجاءها ؛ ذلك لأن
رموز نصف الأصوات في الكلمة مفقود تماما ، وهي رموز الحركات ،
فحروف مثل : (ك ت ب ) ، لا يدري الطفل كيف تنطق ؛ لأنها
تحتمل عدة أوجه في القراءة ، بسبب عدم ضبطها بالحركات ، وهذا معوّق
كبير عن القراءة ، يزيد من كراهية الطفل للتعليم ، ويحبط العملية التعليمية
وإننا لنعجب حقا من تهاوننا في طباعة هذه النصوص ، بلا شكل
أحيانا ، وببعض الشكل أحيانا أخرى ؟ إننا بهذا الخط الخالي من
التشكيل ، نفهم أولا ، لكى نقرأ قراءة صحيحة ، وفى كل لغات العالم
يقرأ الناس ليفهموا ، وإن هذا الخط الخالي من التشكيل ، هو المسؤول عن
الخطأ في ضبط بنية الكلمة ، فلماذا لا نقضي على هذه الآفة الخطيرة
بتشكيل جميع الكتب المدرسية ، حتى مراحل متأخرة تشكيلا كاملا ،
فيتعوّد التلميذ على النطق السليم : لأبنية الكلام وهو ما لا يضبط بقاعدة
في كثير من الأحيان ، ولابد فيه من السماع هذا هو دور القراءة الواعية ، فى تعلم اللغة الفصحى ، ولكن هلفقدنا حقا الوسيلة الأصلية في تعلم اللغة ، وهى : السماع ؟ إن وسائل الإعلام السمعية ( الراديو والتلفاز ) يمكن أن تسهم بدور فعال
فى الوصول إلى نتيجة مرضية في تعلم الفصحى ، غير أن الذى يحدث
للأسف الشديد ، هو طغيان العاميات في كل يوم على الإذاعات العربية ،
فتخسر الفصحى إحدى قلاعها الحصينة ، وتفوت الفرصة الذهبية ، لتعلم اللغة
عن طريق السماع ، إنك لتعجب حين ترى بعض المتعلمين ، ينطق اللغة الأجنبية
على وجهها الصحيح ، حتى إذا رام الحديث بالعربية الفصحى تلعثم
وارتبك ، وأخطأ ولحن ، وصحّف وحرّف ، وخلطها بالردىء من
الأساليب العامية ، كمن يخلط عملا صالحا بآخر سيىء ، وما ذلك إلا
لأنه لا يسمع الفصحى ، إلا فى حجرة الدراسة أحيانا ، حتى إذا خرج إلى
الشارع ، ملأت العامية سمعه وبصره فى كل مكان ، فخلّطت عليه أمره ،
وردّته عن الفصحى أيمّا ردّ ، وعاقته عن تملك زمامها ، والسيطرة عليها
ولقد كان الأمل كبيراً ، في أن تقوم وسائل الإعلام المختلفة ، بسد
هذا النقص ، وتقويم هذا الميل فى ميزان الفصحى والعامية ، فلا يقتصر
سماع الطالب للفصحى ، على دروس المدرسة ، بل تحيط به لغتنا الجميلة
من كل مكان ، وتأخذ عليه جهاته الأربع ، فتتمكن من قلبه ، ويجرى بها
لسانه ، وتصير لغة سليقة له، كان الأمل كبيرا ، في أن يدير الطالب مفتاح المذياع مثلا،
فلا يسمع إلا الفصحى فى كل شىء :فى النشرات ، والتعليقات ، والبرامج
وغيرها ولكن الذى يحدث في كثير من الإذاعات العربية ، هو طغيان اللهجات المحلية على برامجها وموادها ،فإذا سألت المشرفين على هذه الإذاعات ، والقائمين
على التخطيط فيها ، عن أسباب هذه العلة ، التى أزمنت وطال عليها
الأمد ، سمعت منهم حجة غريبة ، وعلة عجيبة ؛ ذلك أنهم يقولون
الجمهور يريد البث باللغة العامية ، وينفر من البرامج الفصيحة !
وينسى هؤلاء القوم أن وسائل الإعلام ، يجب ان تكون موجهة
لا موجهه ، وهذا يعنى أنها لا يصح أن تتملق عواطف الجمهور ، أو تجري
وراء نزواته ، بل يجب أن توجهه وتأخذ بيده ، وتقوده إلى حيث تريد ، فلهذا
السبب وجدت ، ومن أجله تعمل ، فلا يصح أن تنسى وظيفتها الأصلية ،
وتنساق خلف تحقيق الرغبات الجامحة للجمهور الكسول،
لقد كان المطربون والمطربات فى العصر العباسى ، يتغنون بالشعر
العربى الفصيح ، فيذيعون هذا الشعر ، ويعملون على رواج سوق الأدب ،
ونشر الفصحى بين الناس ، ولقد تُغنيَ في عصرنا الحديث ، بالقصائد
الطوال ، من الشعر الفصيح ، فما ازور عنه الجمهور ، ولا مل الاستماع إليه [ وهو رحمه الله تعالى يضرب ها هنا المثل فقط ]...قد يقال : إن نسبة كبيرة من الجماهير العربية ، من الأميين الذين لا يعرفون هذه الفصحى ولا يفهمونها ، فلا يصح أن نخاطبهم بلغة
تعلو عن مستواهم ، أو توجههم بأسلوب ، لا يلقى عندهم صدى أوقبولا ولكن ... من قال إن العربية الفصحى ، تعني التقعر والتشدق واختيار الألفاظ الحوشية ، والأساليب الغريبة في اللغة ؟ إن هذا الجمهور نفسه ، هو الذى يستمع إلى خطبة الجمعة بالفصحى السهلة ، فيفهمها ويعيها ، ولا ينفر منها وليكن ما يقوله هؤلاء صوابا ... أفَيَصح أن نجعل النصيب الأوفر من البرامج بالعامية من أجل الأميين ؟ إنّ ما يحدث من طغيان العامية ،
في البرامج في الإذاعات العربية ، لا نظير له فى أية إذاعة أوربية مثلا ، مع كثرة اللهجات المحلية هناك ، وما ذلك إلا لأن أصحابها آمنوا بالوظيفة الأولى للإذاعة ، وهي التوجيه لا الانقياد .!انتهى كلامه رحمه الله تعالى ،وقد ذكر رحمه الله الظرف الخاص الذي تعيشه لغتنا العربية وهو ارتباطها بكتاب الله جلّ وعلا بالقرآن المجيد ،لقد نزل القرآن الكريم بهذه اللغة المباركة على نمط يعجز قليله وكثيره معا ،وأفاض عليها من الحسن والقداسة ما يضمن لها البقاء ببقاءه حتى تقوم الساعة ،قال الله جل وعلاإنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون [الحجر:9] وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق على صحته أن معجزته العظيمة الظاهرة هي القرآن وأنّه بهذا القرآن العظيم يكون أكثر الأنبياء تابعا يوم القيامة فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ،وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ،فأرجو ان أكون أكثرهم تابعا يوما القيامة متفق عليه ،قال الحافظ ابن حجر : قوله صلى الله عليه وسلموإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّأي إن معجزتي التي تحدّيت بها الوحي الذي أنزل علي وهو القرآن ،قال الله تبارك وتعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلموإنّك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم [النمل : 6]وقال جل جلاله -: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف43/44] و هكذا أوجد الإسلام ارتباطا بين القرآن المجيد و بين اللغة العربية ثم فرضه فرضا ،وكان من أثر هذا الارتباط المبارك أن عادت على اللغة العربية جهود وثمرات لم يبذلها أصحابها يوم بذلوها إلا خدمة لهذا الدين العظيم ،قال الدكتور شوقي ضيف رحمه الله: أحال القرآن الكريم العربية من لغة بدوية بسيطة إلى لغة متحضرة ذات دين سماوي بكل مايرتبط به من إيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ومن عبادات يؤديها المسلم من صلاة وصوم وزكاة وحج مع التمسك بمكارم الأخلاق في السلوك مع قيم مثالية عقلية واجتماعية وإنسانية ،وأيضا كان ان صفى اللغة من أكدارها وهذبها وجعل منها لغة تعليمية لها أصولها وقواعدها وأظهرها مظهرا يقضى العجب منه لأنّه جلّاها على التاريخ كله لا على جيل العرب بخاصته ،فأضحت به لغة قريش عالمية قوية أرغمت أنوف الفصحاء ،وفاقت جميع لغات الدنيا ولهذا بهتوا لها حين لم يتبينوا أكانوا يسمعون بها صوت الحاضر أم صوت المستقبل أم صوت الخلود ،لأنها هي لغتهم التي يعرفونها و لكن في جزالة لم يمضغ لها شيح ولا قيصوم قال القاضي عياض رحمه الله تعالى اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ: أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ الْعَزِيزَ مُنْطَوٍ عَلَى وُجُوهٍ مِنَ الْإِعْجَازِ كَثِيرَةٍ : منهاحُسْنُ تَأْلِيفِهِ، والتئام كلمه، وفصاحته و وجوه إِيجَازِهِ، وَبَلَاغَتُهُ الْخَارِقَةُ عَادَةَ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَابَ هَذَا الشَّأْنِ، وَفُرْسَانَ الْكَلَامِ..
قَدْ خصّوا من البلاغة والحكم ما لَمْ يُخَصَّ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَأُوتُوا مِنْ ذَرَابَةِ اللِّسَانِ مَا لَمْ يُؤْتَ إِنْسَانٌ، وَمِنْ فَصْلِ الْخِطَابِ مَا يُقَيِّدُ الْأَلْبَابَ، جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ طَبْعًا وَخِلْقَةً، وَفِيهِمْ غَرِيزَةً وَقُوَّةً.. يَأْتُونَ مِنْهُ عَلَى الْبَدِيهَةِ بِالْعَجَبِ، وَيُدْلُونَ بِهِ إِلَى كُلِّ سَبَبٍ فَيَخْطُبُونَ بَدِيهًا فِي الْمَقَامَاتِ، وَشَدِيدِ الْخُطَبِ (الخطْب)وَيَرْتَجِزُونَ بِهِ بَيْنَ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ، وَيَمْدَحُونَ وَيَقْدَحُونَ، وَيَتَوَسَّلُونَ وَيَتَوَصَّلُونَ، وَيَرْفَعُونَ وَيَضَعُونَ، فَيَأْتُونَ مِنْ ذَلِكَ بِالسِّحْرِ الْحَلَالِ، وَيُطَوِّقُونَ مِنْ أَوْصَافِهِمْ أَجْمَلَ مِنْ سِمْطِ اللَّآلِ، فَيَخْدَعُونَ الْأَلْبَابَ وَيُذَلِّلُونَ الصِّعَابَ، وَيُذْهِبُونَ الْإِحَنَ وَيُهَيِّجُونَ الدِّمَنَ ، وَيُجَرِّؤونَ الْجَبَانَ، وَيَبْسُطُونَ يَدَ الْجَعْدِ الْبَنَانِ: وَيُصَيِّرُونَ النَّاقِصَ كاملا وَيَتْرُكُونَ النَّبِيهَ خَامِلًا مِنْهُمُ الْبَدَوِيُّ ذُو اللَّفْظِ الْجَزْلِ ، وَالْقَوْلِ الْفَصْلِ وَالْكَلَامِ الْفَخْمِ، وَالطَّبْعِ الْجَوْهَرِيِّ وَالْمَنْزَعِ الْقَوِيِّ.
وَمِنْهُمُ الْحَضَرِيُّ ذُو الْبَلَاغَةِ الْبَارِعَةِ وَالْأَلْفَاظِ النَّاصِعَةِ.. وَالْكَلِمَاتِ الْجَامِعَةِ، وَالطَّبْعِ السَّهْلِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي الْقَوْلِ الْقَلِيلِ الْكُلْفَةِ الْكَثِيرِ الرَّوْنَقِ، الرَّقِيقِ الحاشية .. وكلا البابين فلهما في البلاغة الحجة البالغة، والقوة الدامغة والقدح الفالج والمهيع النَّاهِجُ .. لَا يَشُكُّونَ أَنَّ الْكَلَامَ طَوْعُ مُرَادِهِمْ، وَالْبَلَاغَةَ مِلْكُ قِيَادِهِمْ.. قَدْ حَوَوْا فُنُونَهَا وَاسْتَنْبَطُوا عُيُونَهَا.. وَدَخَلُوا مِنْ كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا.. وَعَلَوْا صَرْحًا لِبُلُوغِ أَسْبَابِهَا. فَقَالُوا فِي الْخَطِيرِ وَالْمَهِينِ، وَتَفَنَّنُوا فِي الْغَثِّ وَالسَّمِينِ.. وَتَقَاوَلُوا فِي الْقُلِّ وَالْكُثْرِ وَتَسَاجَلُوا فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ.. فَمَا رَاعَهُمْ إِلَّا رَسُولٌ كَرِيمٌ.. بِكِتَابٍ «عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ » أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ، وَفُصِّلَتْ كَلِمَاتُهُ، وَبَهَرَتْ بَلَاغَتُهُ الْعُقُولَ.. وَظَهَرَتْ فَصَاحَتُهُ عَلَى كُلِّ مَقُولٍ.. وَتَظَافَرَ إِيجَازُهُ وَإِعْجَازُهُ.. وَتَبَارَتْ فِي الْحُسْنِ مَطَالِعُهُ وَمَقَاطِعُهُ.. وَحَوَتْ كُلَّ الْبَيَانِ جَوَامِعُهُ وَبَدَائِعُهُ وَاعْتَدَلَ مَعَ إِيجَازِهِ حُسْنُ نَظْمِهِ.. وَانْطَبَقَ عَلَى كَثْرَةِ فَوَائِدِهِ مُخْتَارُ لَفْظِهِ.. وَهُمْ أَفْسَحُ مَا كانوا في هذا الباب مجالا.. وأشهر فِي الْخَطَابَةِ رِجَالًا.. وَأَكْثَرُ فِي السَّجْعِ وَالشِّعْرِ ارتجالًا.. وَأَوْسَعُ فِي الْغَرِيبِ وَاللُّغَةِ مَقَالًا بِلُغَتِهِمُ التي بها يتحاورون، ومنازعهم التي عنها يتناضلون، صَارِخًا بِهِمْ فِي كُلٍّ حِينٍ وَمُقَرِّعًا لَهُمْ بضعا وعشرين عاما على رؤوس الْمَلَإِ أَجْمَعِينَ..«أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » «وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ إن كنم صادقين ،فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التى وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين » ثم قال القاضي رحمه الله :.
فَلَمْ يَزَلْ يُقَرِّعُهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ التَّقْرِيعِ وَيُوَبِّخُهُمْ غَايَةَ التَّوْبِيخِ، وَيُسَفِّهُ أَحْلَامَهُمْ ويحط أعلامهم، ويشتت نظامهم.. ويذم آلهتهم وآباءهم.. وَيَسْتَبِيحُ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ.. وَهُمْ فِي كُلِّ هَذَا نَاكِصُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ.. مُحْجِمُونَ عَنْ مُمَاثَلَتِهِ.. يخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب. والإغراء بِالِافْتِرَاءِ وَقَوْلِهِمْ «إن هذا إلا سحر يؤثر » » وَ «سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ » وَ «إِفْكٌ افْتَراهُ » وَ «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ » . والمباهتة والرضى بِالدَّنِيئَةِ كَقَوْلِهِمْ: «قُلُوبُنا غُلْفٌ » وَ «قلوبنا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْه وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ » وَ «لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ » ومع الادعاء بالْعَجْزِ بِقَوْلِهِمْ: «لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا » .
وَقَدْ قَالَ لَهُمُ اللَّهُ «وَلَنْ تَفْعَلُوا » فَمَا فَعَلُوا وَلَا قَدَرُوا وَمَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ مِنْ سَخائِفهم و سُخَفائهم كَمُسَيْلِمَةَ . كشف عوَارهُ لِجَمِيعِهِمْ..
وَسَلَبَهُمُ اللَّهُ مَا ألفوه من فصيح كلَامِهِمْ.. وَإِلَّا فَلَمْ يَخْفَ عَلَى أَهْلِ الْمَيْزِ منهم أنّه ليس من نمط فصاحتهم وَلَا جِنْسِ بَلَاغَتِهِمْ.. بَلْ وَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ وَأَتَوْا مُذْعِنِينَ مِنْ بَيْنِ مُهْتَدٍ وَبَيْنِ مَفْتُونٍ وَلِهَذَا لَمَّا سَمِعَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى قريش وقال : والله مامنكم رجل أعرف بالأشعار مني ولا اعلم برجزه ولا بقصيده مني ولا بأشعار الجن ،وَاللَّهِ ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ووالله إِنَّ لَقوله الذي يقوله حَلَاوَةً.. وَإِنَّ عليه لَطَلَاوَةً ، وَإِنَّه لمثمر أعلاه ،مغدق أسفله ،وإنه ليعلو ولا يعلى ،وإنه ليَحطم ماتحته أخرجه الحاكم والبيهقي في الشعب وغيرهما وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية ،وهكذا حار القوم في إجابة هذا التحدي ثم كان من أمرهم ما كان ،وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك إفتراه وأعانه عليه قوم آخرون وقالوا لا تسمعوا لهذا القرآن ولغوا فيه لعلكم تغلبون وقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه بحيث لا يبقى لعامة الناس مجال للتدبر في دعوته والتفكير فيها فكانوا يقولون عن القرآن "أضغاث أحلام يراها محمد بالليل ويتلوها بالنهار " ،ويقولون بل افتراه من عند نفسه ويقولون إنما يعلمه بشر وقالوا إن هذا إفك إفتراه وأعانه عليه قوم آخرون أي اشترك هو وزملاؤه في إختلاقه ،وقالوا أساطير الأولين إكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا وأحيانا قالوا : إن له جنا أو شيطانا يتنزل عليه كما يتنزل الجن والشياطين على الكهان فقال تعالى ردا عليهم :هل أنبئكم على من تنزّل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم ثم قمعهم القرآن وأقمأهم وأمات ذكرهم وأتى ببيان معجز موجز ،قتل فيه كل محاولة قام فيها المشركون للطعن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم أو بنزول الوحي والقرآن على قلبه ،قال الله عز وجل ولا يأتون بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا وقال تعالى قل لئن إجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا قال القاضي عياض رحمه الله : فَعَجْزُ الْعَرَبِ عَنْهُ ثَابِتٌ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بما يصح أَنْ يَكُونَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ وَتَحَدِّيهِمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ قَاطِعٌ.. وَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّعْجِيزِ، وَأَحْرَى بِالتَّقْرِيعِ .... وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَا أَتَوْا فِي ذَلِكَ بِمَقَالٍ بَلْ صَبَرُوا عَلَى الْجَلَاءِ، وَالْقَتْلِ، وَتَجَرَّعُوا كَاسَاتِ الصَّغَارِ وَالذُّلِّ، وَكَانُوا مِنْ شُمُوخِ الْآنُفِ ، وَإِبَاءَةِ الضَّيْمِ بِحَيْثُ لَا يُؤْثِرُونَ ذَلِكَ اخْتِيَارًا، وَلَا يَرْضَوْنَهُ إِلَّا اضْطِرَارًا.. وَإِلَّا فَالْمُعَارَضَةُ- لَوْ كَانَتْ مِنْ قُدَرِتهِمْ - وَالشُّغْلُ بِهَا أَهْوَنُ عَلَيْهِمْ، وَأَسْرَعُ بِالنُّجْحِ وَقَطْعِ الْعُذْرِ، وَإِفْحَامِ الْخَصْمِ لَدَيْهِمْ.. وَهُمْ مِمَّنْ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى الْكَلَامِ، وَقُدْوَةٌ فِي الْمَعْرِفَةِ بِهِ لِجَمِيعِ الْأَنَامِ، وَمَا مِنْهُمْ الا من جَهد جهدَه واستنفد مَا عِنْدَهُ فِي إِخْفَاءِ ظُهُورِهِ، وَإِطْفَاءِ نُورِهِ فَمَا جَلَوْا فِي ذَلِكَ خَبِيئَةً مِنْ بَنَاتِ شفاههم ، ولا أتوا بنطفة من معين مياههم مع طول الأبد ، وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ، وَتَظَاهُرِ الْوَالِدِ وَمَا وَلَدَ بَلْ أبلسُوا فما نبَسوا ومنعوا فانقطعوا فتركوا المعارضة لعجزهم وأقبلوا على المحاربة لجهلهم فكان حظهم مما فرّوا إليه حظهم مما فزعوا منه فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين والحمد لله رب العالمين ،العربية صيانتها صيانة للدين وتعلمها بنية صالحة من أجل فهم كتاب الله جلّ وعلا وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ومعرفة ماخطه علماؤنا من تراثنا العربي الفذ ،في الأمور الشرعية وعلوم الآلة وغير ذلك من مناحي ما خطته يراعاتهم وكتبوه ببنانهم رحمة الله عليهم ،تعلم ذلك بالإخلاص والنية الصادقة عبادة لله جلً وعلا مما يتقرب به إلى الله رب العالمين ،وإضعاف اللغة إضعاف للدين ولم يوجد قط في تاريخ هذه الأمة عالم يتشدق بأن ضعفه في اللغة العربية أمر يحمد عليه أو يثنى به عليه وإنما هي من العورات التي ينبغي أن توارى ومن السوءات التي ينبغي أن تستر ،بل إن علماء الحديث كان إذا جاءهم طالب للحديث ،فوجدوا لحنه ظاهرا ،وضعفه باديا في هذه اللغة الشريفة أمروه بأن يذهب ليتعلم هذا اللسان القويم على الصراط المستقيم وأن ذلك من أول ما يبدأ به ،فعلينا أن نتقي الله تبارك وتعالى في لغتنا ،وأن نجتهد في تعلمها والنطق بها ،وأن تتشكل عقليتنا بحسبها ،فإن العربية لغة فذة فريدة ،وهي لغة حرة ،لأن أهلها في أرومتهم لم يستعبدوا يوما من الدهر ،وهي مصفاة ومهذبة ،وهي اللغة التي أنزل بها الله تبارك وتعالى كتابه ،وذكر بها النبي صلى الله عليه وسلم حديثه وخطابه ،فتعلمها دين ،والاكباب على تعلمها تقرب الى رب العالمين بنية صالحة صادقة من أجل أن ينظر المرء في كتاب الله جل وعلا فيَعلم شيئا من إعجازه ،ويرى شيئا من آياته البيانية الباهرة واضحة جلية ،حتى يستقر في قلبه ويقينه عظمة الكتاب الذي أنزله الله رب العالمين على خاتم الأنبياء وسيد الأصفياء صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،نسأل الله رب العالمين أن يحلل عقدة من ألسنتنا ،وأن ييسر تعلم العربية لنا ،وأن ييسر لنا النطق بها على النحو العربي المستقيم بالسليقة الصحيحة خدمة لكتاب ربنا واكبابا على سنة نبينا وإقبالا على تعلم ديننا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
فرغها : الفقير إلى عفو ربه محب اللغة العربية عمر تراكة .