إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الفصحى وتحديات العصر مقال ماتع للدكتور رمضان عبد التواب رحمه الله

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الفصحى وتحديات العصر مقال ماتع للدكتور رمضان عبد التواب رحمه الله

    الفصحى وتحديات العصر *


    منيت العربية الفصحى في العصر الحديث، بخصوم حاقدين وأعداء ألداء. وليست تلك الهجمة الضاربة الشرسة على الفصحى، إلا جزءا من الهجوم على الدين الإسلامي الحنيف، فقد فطن أعداء هذا الدين، إلى الارتباط الوثيق بينه وبين اللغة العربية الفصحى، وفي يقينهم أنهم إن أزالوها عن مكانتها الراسخة في القلوب منذ أربعة عشر قرنا. فقد أزالوا الحصن الأكبر من حصون هذا الدين الحنيف، فرموها بكل ما يملكون من أسهم ونبال، واتهموها وما زالوا يتهمون بالصعوبة والتعقيد، وأخذوا يشككون أهلها في قدرة لغتهم على مجاراة العصر، والاتساع للتعبير عن مستحدثات الحضارة، وبذلوا جهدهم في إحلال العامية محلها، بدعوى جمود الفصحى، وانتمائها إلى عصور بادت وانقرضت، وعدم صلاحيتها للحياة وسط هذا الخضم الهائل، من النظريات الفلسفية والاجتماعية والسياسية، التي يموج بها القرن العشرون.
    حتى خطها، الذي شرق وغرب، واستحسنته أمم غير عربية، فكتبت به لغاتها، لم يسلم هو أيضا من الطعن فيه، والادعاء بأنه هو سبب تأخر العرب، وبذل الجهود في محاولة تنحيته عن الساحة، وأن يستبدل به الخط اللاتيني، حتى إذا ضاعت اللغة، وضاع الخط العربي، فقد تهدمت آخر حصون الدين الإسلامي، وتحطمت أقوى قلاع هذا الشرع الشريف.
    وقد قاد هذه الحملة الشرسة أقوام من المستشرقين، وتعاون معهم ذيولهم في الوطن العربي، ممن يتسمون بأسماء عربية: سلامة موسى، وعبد العزيز فهمي، وأنيس فريحة، وسعيد عقل، وغيرهم، وما لهم من العروبة إلا هذه الأسماء، أما قلوبهم وأما اتجاههم فإلى الغرب، ضد العربية وضد الدين. وقد ذهب منهم من ذهب إلى غير رجعة، ومنهم من لا يزال حيا، ينشر المقالات، ويرصد الجوائز والمكافآت لحرب الفصحى، وزعزعة أركان الدين الإسلامي.
    وفيما يلي تفنيد لدعاوي القوم، وكشف لزيفها وضلالها:
    أما الدعوى الأولى، فقد أثرت بعض التأثير في نفوس الشباب، الذي لم يتزود من الفصحى بالقدر الذي يحصنه ضدها؛ إذ يسود بين جمهرة المثقفين العرب شعور مدمر، بأن لغتنا الجميلة العربية الفصحى، لغة معقدة القواعد، صعبة التعلم، كثيرة الشذوذ في مسائلها وقضاياها، بحيث تجعل من استخدامها والتحدث بها، عبئا ثقيلا على أهلها.
    ولقد انتهز المغرضون هذه الفرصة، وأخذوا يصيدون في الماء العكر، ويدعون إلى استخدام العامية، وهجر الفصحى أو خلطها بالعامية. وهي دعوة حمل لواءها منذ فترة طويلة، المعادون للإسلام وأهله، فادعوا أن إعراب العربية الفصحى، أمر عسير التعلم؛ ليصرفوا المسلمين عن منبع دينهم وعماد شريعتهم ودستور حياتهم، وهو القرآن الكريم، الذي أنزله الله عز وجل بهذه العربية الفصحى.
    ولكيلا ينخدع شبابنا المثقف بهذه الأكذوبة الخداعة، أحب أن ألفت نظرهم إلى أن هذا الإعراب المعقد الصعب، لا تنفرد به العربية الفصحى وحدها، بل هناك لغات كثيرة، لا تزال تحيا بيننا، وفيها من ظواهر الإعراب المعقد ما يفوق إعراب العربية بكثير، فهذه هي اللغة الألمانية مثلا، تقسم أسماءها اعتباطا إلى مذكر ومؤنث، وجنس ثالث لا تعرفه العربية، وهو: "المحايد"، وتضع لكل واحد من هذه الأجناس الثلاثة، أربع حالات إعرابية، هي حالات: الفاعلية والمفعولية والإضافة والقابلية، والحالة الأخيرة حالة لا تعرفها العربية، وهي إعراب المفعول الثاني، فهي من حالات المفعولية في العربية، وليست حالة خاصة فيها: تلك هي حالات الإعراب الاسم المفرد المعرف في الألمانية، والمفرد المنكر له أربع حالات أخرى، وكذلك الجمع المعرف والجمع المنكر.
    وبناء الجملة في اللغة الألمانية له نظام صارم، فالفعل يحتل فيها المرتبة الثانية دائما، إلا في الجمل الفرعية، كالجمل التعليلية مثلا، فإن الفعل يؤخر فيها إلى نهاية الجملة.
    وإن من يشكو من كثرة جموع التكسير في العربية، وغلبة الشذوذ على قواعد هذا الجمع فيها، سيحمد للعربية الاطراد النسبي في هذه القواعد، إذا درس اللغة الألمانية، ورأى كثرة صيغ هذه الجموع فيها، وفقدان القاعدة التي تخضع لها تماما، إلى درجة أن كل كتاب في تعليم قواعد الألمانية، تبدأ صفحاته الأولى بهذه العبارة: "احفظ مع كل اسم أداة تعريفه وصيغة جمعه؛ لأنه ليست هناك قاعدة لذلك"!
    فليست العربية إذن، بدعا بين اللغات في صعوبة القواعد، غير أن شيئا من هذه الصعوبة يعود بالتأكيد إلى طريقة عرض النحويين لقواعدها، فقد خلطوا في هذه القواعد بين الواقع اللغوي والمنطق العقلي، وبعدوا عن وصف الواقع إلى المماحكات اللفظية، وامتلأت كتبهم بالجدل والخلافات العقيمة، فضل المتعلم وسط هذا الركام الهائل من الآراء المتناقضة في بعض الأحيان. والحقيقة أن القواعد الأساسية لنحو اللغة العربية، يمكن أن تستخلص في صفحات قليلة مصفاة من هذا الحشو الذي لا طائل وراءه.
    ولقد كثر البحث عن السر في إخفاقنا حتى الآن، في تعليم العربية الفصحى لأبنائنا، كما ينبغي، فلم تفلح مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا عموما في إنشاء علاقة الود بين المتعلمين وهذه اللغة، ولم تنجح في غرس حب القراءة في النشء منذ الصغر.
    ولعل السبب في ذلك يرجع إلى اعتقاد الكثيرين منا، بأن في تعليم قواعد اللغة تعليما للغة. وتفكيرنا في الأمر على هذا النحو، كتفكير من يعلم قواعد العروض لكي ينشئ شاعرا، أو كتفكير من يحفظ صفحتين في قواعد قيادة السيارات، ثم يظن أنه بهذا الحفظ وحده، قد أصبح سائقا ماهرا، فإن اهتمامنا بتعلم القواعد النحوية في مرحلة مبكرة من حياة الطفل، جعلنا نظن أن مقياس إجادة اللغة، هو البراعة في حفظ المصطلحات النحوية، والتفنن في عد مسوغات الابتداء بالنكرة، ومجيء الحال معرفة، وأحوال الصفة المشبهة وما إلى ذلك.
    كل هذه الأمور وأمثالها، يرددها التلميذ في هذه السن المبكرة بلا وعي، ثم ينساها عقب الفراغ من الامتحان، ولا يبقى في ذهنه منها إلا التندر على صعوبة اللغة العربية، وما لاقاه في تعلمها من عنت ومشقةوإنني لست بهذا أحط من أهمية قواعد اللغة، ولا أقلل من قدرها في الوقوف على سر اللغة والتمكن منها. ولكني أحذر من وصعها في المقام الأول، ونسيان الفطرة التي جبل عليها الإنسان في تعلم اللغة. خذ لغة التخاطب مثلا، وانظر كيف يتعلمها الطفل؟! إننا لا نشرح له أية قاعدة من قواعدها، ولكن الذي يحدث هو أننا نتكلم، والطفل يحاكي ويقلد، حتى إذا أخطأ لا يجد من حوله يشرحون له القاعدة، وإنما يكررون الصواب أمامه ... وهكذا وعن هذه الطريق وحدها، يلم الطفل بتراكيب اللغة ومعانيها حفظا وفهما، ويهضم كل ذلك ثم يقيس عليه، ويكتمل نضج لغة الخطاب لديه في وقت قصير دون أن يعلم شيئا عن قواعدها وقوانينها وضوابطها.
    وإذا كان هذا هو المنهج الفطري في تعلم اللغة، فلماذا لا نفيد منه في تعلم العربية الفصحى؟ حقا إن العربية الفصحى لا يتكلمها الناس في كل وقت حول التلميذ، كما نتحدث بالعامية أمام الطفل، ولكن هناك طريق آخر يقوم مقام السماع، وهو طريق القراءة، قراءة النصوص الأدبية القديمة، وما نسج على نمطها في العصور المختلفة، قراءة واعية صابرة، مع حفظ الكثير والكثير جدا، من هذه النصوص الجيدة شعرا ونثرا. وعلى رأس هذه النصوص جميعها بالطبع، نص القرآن العظيم، وفي هذه الحالة تتكون الملكة القادرة على محاكاة هذه النصوص، والنسج على منوالها.
    ولقد نادى بمثل ذلك العلامة ابن خلدون، فقال: "ووجه التعليم لمن يبتغى هذه الملكة ويروم تحصيلها، أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم، الجاري على أساليبهم، من القرآن والحديث، وكلام السلف ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم، وكلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم، حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور، منزلة من عاش بينهم، ولقن العبارة منهم".(1)
    هذا ما قاله ابن خلدون. وإنه لا شيء أجدى على من يريد تعلم لغة ما، من الاستماع إليها، والقراءة الكثيرة في تراثها، وحفظ الجيد من نصوصها، وإذا كنا أمام الفصحى لا ننعم بالوسيلة الأولى وهي الاستماع؛ إذ أكثر ما نسمعه عامي أو فصيح ملحون أو مليء بالخطأ، أو ركيك العبارة
    ضحل المضمون، فلا تزال أمامنا فرصة الإفادة من القراءة الواعية للنصوص الجيدة، وعندئذ تتكون السليقة اللغوية عند أبناء العربية، وتجري ألسنتهم بالفصحى العذبة، وتأتي دروس القواعد، فتنظم هذا الكيان اللغوي، الذي نما وترعرع في ظل النصوص. وعندها لا يجد أعداء العربية ما يقولونه، حول صعوبة قواعدها، أو ضعف المتعلمين بها.
    أما الدعوى الثانية، وهي أن العربية قاصرة عن استيعاب علوم العصر، فالرد عليها هين جدا؛ لأن المنصفين من علماء اللغة يعتقدون اعتقادا جازما في قدرة كل لغة على التعبير على أية فكرة، متى قامت في نفوس أصحابها، "فهناك وجه شبه ظاهر، بين اللغة ومختلف أنواع النقود، التي نستعملها في البيع والشراء، فالنقود في نظر رجال الاقتصاد، ما هي إلا رمز للقوة الشرائية، التي تمكن الإنسان من تملك الشيء، الذي تصبو إليه نفسه، فإن القيمة الحقيقية لما في العملة من ورق أو معدن، تعد شيئا تافها بالنسبة لقواتها الشرائية، فالصكوك والعملة الورقية، لا تساوي في حد ذاتها، أكثر من قيمة الورق الذي طبعت عليه. وللذهب والفضة قيمة محدودة لأغراض الزينة، ولكنهما من الناحية العملية أقل قيمة من المعادن الأخرى، التي تفوقها في الصلابة وقوة الاحتمال. فحقيقة الأمر أن القيمة الحقيقية للنقود، هي صفة يضيفها عليها المجتمع الذي يتعامل بها"(2).
    وكذلك اللغة، فإن قيمتها في تمسك أهلها بها، ورواجها.
    بينهم وتداولها على ألسنتهم، واحترامهم إياها، وثقتهم بها في حمل أفكارهم ومعتقداتهم، والتعبير عن انفعالاتهم وعواطفهم، واستخدامهم إياها في كل ما يعن لهم من شئون الحياة السهلة، أو القضايا الفلسفية المعقدة. كما تبدو قيمتها كذلك فيما تعبر عنه من رصيد فكري وحضاري كبير.
    وإن الجاهلين بهذه المسلمات اللغوية، ليعيبون لغتنا الفصحى، بأنها قاصرة عن استيعاب علوم العصر؛ لأنها -كما يقولون- لغة سلفية جامدة، تتطلع إلى الوراء بدلا من اتجاهها إلى الإمام.
    ويحضرني هنا في الرد على هذه الفرية، كلام للعالم اللغوي الشهير "فندريس"، يقول فيه: "الواقع أننا لا نعلم إطلاقا لغة قد قصرت عن خدمة إنسان عنده فكرة يريد التعبير عنها"، ثم يقول عقب هذا: "فلا ننصت إذن إلى أولئك المؤلفين العاجزين، الذين يحملون لغاتهم مسئولية النقص الذي في مؤلفاتهم؛ لأنهم هم المسئولون، على وجه العموم، عن هذا النقص".(3)
    واللغة العربية الفصحى، لم تخلد على الزمن، ولم يمتد بها العمر أربعة عشر قرنا، وإلى ما شاء الله، إلا لما تحمل من عناصر البقاء، المتمثل في هذا التراث الحضاري، وتلك العقيدة السامية، التي شرف الله بها العربية، حين اختارها وعاء لما فيها من أفكار وتصورات، ولما آتى الله أهلها من جلد وصبر على تحمل تبعاتها، ودأب في البحث عن أسرارها وخفاياها.
    وقد امتحنت العربية الفصحى في التاريخ مرتين، في ناحية القدرة على استيعاب الأفكار الجديدة، واجتازت هذا الامتحان بنجاح كبير، فهذه هي الأفكار الدينية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية الغراء، قد استوعبتها العربية الفصحى، وعبرت عنها أدق تعبير وأبلغه. كما أن حركة الترجمة من اللغات الأجنبية في العصر العباسي الأول، لم تقصر العربية الفصحى عن تحمل تبعاتها، ولم يشك واحد من المترجمين آنذاك، من قصور الفصحى عن استيعاب الأفكار الفلسفية والعلمية، التي كانت لمفكري الإغريق والرومان والسريان وغيرهم.
    وما نجاح تدريس الطب بالعربية الفصحى في سوريا الشقيقة، في عصرنا الحاضر، إلا برهان آخر على قدرة لغتنا الجميلة، على استيعاب علوم العصر، والتعبير عن مظاهر مستحدثات الحضارة.
    إنهم يعيبون اللغة، والعيب فيهم هم. وفي رأينا أن اللغة لا تعجز عن التعبير عن أي معنى من المعاني، متى قام في نفوس المتكلمين بها، فالفكرة متى قامت في ذهن الإنسان، استطاع التعبير عنها بلغته، إن كان متمكنا من هذه اللغة، وعاملا على رفعة شأنها.
    أما الدعوى الثالثة، فإننا نرى كيف تعلو من آن لآخر، صيحات أثيمة في الوطن العربي، تدعي صعوبة الكتابة بالفصحى، وتدعو لذلك إلى هجرها، والكتابة بالعامية، بحجج يبدو فيها الزيف والضلال، وهي إن جازت على بعض ذوي العقول الضعيفة، والنفوس المريضة، فإنها لم تخدع بحال من الأحوال جمهرة العرب، الذين آمنوا بربهم، وتمسكوا بكتابهم، وعرفوا أن في حياة هذه اللغة الشريفة حياة لدينهم وتراثهم، وهم في هذه موقنون.
    بتحقق وعد الله الكريم، بأن يحفظ الفصحى، حين تكفل عز وجل بحفظ كتابه العزيز، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
    وإن من يدعو إلى نبذ الفصحى، والكتابة بالعامية، لهو أحد رجلين، أولهما: حاقد على الفصحى وكتابها الكريم ودينها الخالد، فهو يريد هدم الدين عن طريق هدم لغته، وتضييع كتابه، وهذا ضل سعيه؛ لأنه ممن يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
    والآخر رجل جاهل بسر العربية، وما فيها من قدرة بارعة خلاقة في التعبير عن الفكر. ومن جهل شيئا عاداه، كما يقولون.
    ومن النفر الأول بعض المستشرقين وذيولهم في الوطن العربي، وقد هلل "نولدكه" لمحاولات "محمد عثمان جلال" الكتابة بالعامية المصرية للمسرح، فما باله لو اطلع على الأدب الغث الذي كتب بهذه اللغة الممسوخة، في عصرنا الحاضر؟!
    إن مما يطمئن النفس أن أصحاب هذا الأدب، يحسون في قرارة أنفسهم بالضعة، ويتجرعون مرارة الإحساس، بأن أدبهم محلي، ليس له رواج إلا في بيئاتهم المحدودة.
    ولقد يلفت النظر أن قطب الدعاة إلى العامية في نصف القرن الماضي، وهو "سلامة موسى"، لم يكتب واحدا من مؤلفاته، أو يسطر كلمة في مقالاته، باللغة التي كان يدعو إليها. فهل ترى أقسى من هذا على نفوس هؤلاء الحاقدين الحاسدين؟!
    إنه من الغريب حقا أن يبحث بعض الناس عن لغة أخرى غير الفصحى، لتحل محلها -على زعمهم- في توحيد شعوب الأمة العربية،ويرون في هذه العامية أملهم في أن تحمل لواء الأدب، وتتسع لمستحدثات الحضارة. فأية عامية تلك التي يريدونها؟ أهي عامية مصر، أم عامية الجزيرة العربية، أم عامية العراق، أم عامية سوريا، أم عامية المغرب، أم عامية السودان؟ وفي مصر مثلا: أهي عامية الصعيد، أم عامية الوجه البحري، وفي الوجه البحري: أهي عامية الشرقية، أم المنوفية، أم البحيرة؟ إن هذا لهو الضلال المبين!
    وليعرف أبناء اللغة العربية، أن محاولة رفع مكانة العامية، لتحل محل اللغة الأدبية، إنما هو شعار مدرسة ضالة في أمريكا، لم يرض عنها جمهرة علماء اللغة في العالم. وهذا هو "ماريو باي" يرد عليهم فيقول:(4): "شق الجيل الجديد من اللغويين في أمريكا، عصا الطاعة على النحو التقليدي، وبدءوا يدعون للمبدأ الذي ينادي بأن الصيغة التي يستخدمها الناس، هي الصيغة اللغوية الصحيحة. وقد صار شعار هذه المدرسة: "إن اللغة الحقيقية، هي اللغة التي يستخدمها الناس فعلا، لا اللغة التي يعتقد بعضهم أن على الناس أن يستخدموها". ولكن الصيغة التي يستخدمها الناس، لها مشكلاتها الخاصة بها، فأية صيغة هذه؟ ومن الذي يستخدمها؟ حتى في الدول التي يظهر للناس أنها تستخدم لغة موحدة، هناك مستويات مختلفة لاستخدامها، كما تختلف اللهجات المحلية، باختلاف المناطق التي تستخدمها".
    ولقد بلغ من خبث بعض دعاة العامية في الوطن العربي أحيانا، أن زعموا أن العامية شكل صحيح من أشكال الفصحى، عنها تطور ومنها أخذ، وأن استخدام العامية لن يقطع الصلة بيننا وبين الفصحى. ولقد كذبوا في هذا وزيفوا وضللوا، فهم يعرفون تماما أن اللاتينية مثلا، كانت هي اللغة الأدبية في إيطاليا وفرنسا وأسبانيا في العصور الوسطى، وكانت العاميات المنتشرة في هذه البلاد، هي اللهجات الإيطالية والفرنسية والأسبانية، وهي عاميات لاتينية، تشبه العاميات العربية في صلتها بالفصحى. وقد أدى استخدام الأدباء والشعراء لهذه العاميات بعد ذلك، في إيطاليا وفرنسا وأسبانيا، وتركهم اللغة اللاتينية الأدبية الأم، إلى موت هذه اللغة، وانسلاخ العاميات عنها، وتكون اللغات الإيطالية والفرنسية والأسبانية، وهذا هو ما يريده دعاة العامية، وهو أن تتفكك لغتنا إلى لغات شتى، في أرجاء الوطن العربي.
    وخلاصة القول أنه لا يحق لنا، أن نخلط الفصحى بالعامية، بدعوى أنها تمت إليها بصلة، فإن هذه لغة وتلك لغة أخرى، فمن ضاق بالفصحى من هؤلاء الأفاقين، فلا عليه أن يستخدم عاميته في أحاديثه وكتاباته، غير أنه لن ينتزع منها شهادة بأن هذه العامية هي والفصحى سواء. وإنا لهم بالمرصاد، والله الموفق.
    أما هذا الخط الذي نكتب به لغتنا العربية، منذ مئات السنين، فلا شك في أنه خط غير مبرأ من العيوب، فالهمزة فيه لها مشاكل تعتاص على البراعم الصغيرة من أبنائنا في مراحلهم التعليمية الأولى، فهم يرونها تارة وقد كتبت على ألف، مثل: "سأل" وتارة أخرى على واو، مثل: "يؤمن"، وثالثة على ياء، مثل: "سئل"، ورابعة على السطر بلا حامل يحملها، مثل:
    "سماء". والألف المقصورة كذلك، يرونها مرة بالألف، مثل: "دعا"، وأخرى بالياء، مثل: "سعى". وهناك حروف تكتب ولا تنطق، مثل: اللام الشمسية، والألف التي توضع أمام واو الجماعة. وحروف تنطق ولا تكتب، كحروف المد في: هذا، وهذه، وهؤلاء، ولكن، وذلك، وغيرها.
    وغير هذا وذاك، هناك تشابه محير للطفل، في بعض أشكال الحروف، كالباء والتاء والثاء، والجيم والحاء والخاء، وغيرها، إذ نفرق بين كل مجموعة من هذه المجموعات المتشابهة، بالنقط المفردة والمثناة والمثلثة، من فوق الحرف أو تحته، كما أن الكلمة إذا أهمل ضبطها بالشكل، صارت في بعض الأحيان لغزا، لا يحله إلا فهم المعنى أولا، لكي يقرأ القارئ قراءة سليمة.
    هذا وغيره، من الأمور المعوقة للقراءة والكتابة عند النشء، جعلت فريقا من الناس يحاول إصلاح هذا الخط وتيسيره، وشاركت المجامع العلمية في هذا الميدان، فأعلن مجمع اللغة العربية بالقاهرة، قبل حوالي ربع قرن من الزمان، عن مكافأة مالية سخية، لمن يتقدم بمشروع مبرأ من العيوب لإصلاح هذا الخط، وتقدم الكثيرون من العلماء وأشباه العلماء ببحوثهم واقتراحاتهم، ولم يصل واحد منهم إلى حل مقبول لهذه المشكلة العويصة.
    ومن قبل، أحس سلفنا الصالح، رضوان الله عليهم، بحاجة هذا الخط إلى الإصلاح؛ لأن العرب ورثوه عن النبط جثة هامدة؛ إذ كان يخلو من رموز الحركات القصيرة. وكان أول من فكر في إصلاح هذه الناحية: "أبو الأسود الدؤلي" الذي جعل الفتحة نقطة فوق الحرف، والكسرة نقطة تحت الحرف، والضمة نقطة على يسار الحرف. وكانت هذه النقط تكتب.
    بحبر مخالف لنقط الباء والتاء والثاء، وغيرها من الحروف المنقوطة، حتى لا تختلط بها. ثم جاء "الخليل بن أحمد الفراهيدي"، فوضع رموز الشكل التي نعرفها اليوم، وهي: الضمة والفتحة والكسرة، بل كان هو الذي وضع كذلك: رمز الهمزة والشدة، والسكون، والمدة والوصل، وغير ذلك.
    هذا هو تاريخ المشكلة، وفي رأيي أن أي تفكير في إصلاح هذا الخط في العصر الحاضر، يجب ألا يبتعد كثيرا عن نماذجه الحالية، فقد ذاع هذا الخط وانتشر، وكتب به تراث ضخم، فأي تفكير في إصلاح عيوبه، لا يصح أن يغفل هذا التراث، فما بالنا إذا رأينا من يدعو إلى هجره تماما، بين الجيل الذي يتعلم هذا الخط، وتراثنا العربي بكامله. وهذا هو ما يريده أعداء العربية.
    وفي الحقيقة، ليس خطنا العربى بدعا بين الخطوط في مشاكله، فالخط الفرنسي مثلا يعاني من عيوب خطيرة، تتمثل في أن به الكثير من الحروف التي لا تنطق، إلى جانب الدلالة على نطق معين بصور مختلفة من الرموز. ومع ذلك يقول "فندريس" أحد علماء اللغة الفرنسيين، عن محاولات إصلاح هذا الخط الفرنسي:(5): "فإذا قمنا بإصلاح شامل دفعة واحدة، كنا قد استبدلنا مكان اللغة المكتوبة، التي تعودنا عليها، لغة كتابية أخرى جديدة، ويترتب على هذا أن نطرح وراء ظهرنا دفعة واحدة، جميع المطبوعات التي نشرت بالفرنسية منذ قرون، وهو أمر مستحيل، هذا إلى أن مثل ذلك العمل، يوجب على جيل أو جيلين من الفرنسيين، أن يتعلموا لغتين، بدلا من لغة واحدة، وإن هناك من العادات والتقاليد الأدبية، ما لا يستطيع المرء أن يغيره بجرة قلم واحدة".
    وهؤلاء هم الأتراك، عندما نبذوا الخط العثماني، واستبدلوا به الخط اللاتيني، أصبحوا كالمعلقين في الفضاء؛ إذ لا يعلم التركي في أيامنا هذه شيئا عن ماضيه الغابر، كما أنه أصبح حائرا في انتمائه الآن، فلا هو أوربي ولا هو شرقي، ولم يفلح اختياره الخط اللاتيني في تقريبه إلى العرب، في قليل أو كثير.
    (1) مقدمة ابن خلدون 487
    (2)لغات البشر لماريوباي 22
    (3) اللغة لفندرمنه21
    (4)لغات البشر 108
    (5) اللغة لفندريس 413 [مصدر المقال : كتاب بحوث ومقالات للدكتور رمضان عبد التواب بحوث ومقالات في اللغة]
الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 1 زوار)
يعمل...
X