إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

اللباب في شرح علل "الكتاب" لسيبويه (2).

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • اللباب في شرح علل "الكتاب" لسيبويه (2).

    بسم الله الرحمن الرحيم


    اللباب في شرح علل ”الكتاب”
    لسيبويه (2)


    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

    فهذه المقالة الثانية من سلسلة ”اللباب في شرح علل الكتاب”، وقد أفردتها للكلام عما يتعلق بالتثنية والجمع لكثرة ما ذكر فيهما من التعليل واجتنبت الكثير من التطويل الذي لا يصلح الاشتغال به، والله ولي التوفيق.

    زيادة حروف المد في التثنية وجمع المذكر السالم:
    وإنما زيدت الألف والواو والياء في التثنية والجمع في نحو: ”جاء الرجلان والمسلمون” و ”رأيت الرجلين والمسلمين”، لأن معنى التثنية والجمع يخالف معنى المفرد، حيث إن مدلول التثنية فردان، ومدلول الجمع أكثر من فردين، بينما مدلول المفرد فرد واحد، فلما اختلفا عنه من جهة المعنى كان لا بد فيهما من علامة تميزهما عن المفرد فيحصل بها التنبيه على الفرق مع اختصار في اللفظ، وأولى ما يزاد من الحروف حروف المد واللين؛ لخفتها وكثرة دورانها في الكلام.


    إعراب التثنية والجمع:
    اختلف النحاة في إعراب التثنية والجمع على قولين:
    الأول: أنهما يعربان بالحروف التي زيدت فيهما، فعلامة الإعراب فيهما الألف والواو والياء، فالألف علامة لرفع التثنية، والواو علامة لرفع الجمع، والياء علامة لنصبهما وجرهما.
    ودليلهم على ذلك أن المفرد الذي هو أشرف منهما -إذ هما فرعان منه والأصل أشرف من الفرع- قد أخذ الإعراب بالحركات الذي هو الأصل، فأعطي لهما إعرابا فرعيا يناسب فرعيتهما، وهذه الحروف هي فروع الحركات لأنها تتولد بإشباعها، فالألف فتحتان، والواو ضمتان، والياء كسرتان.
    ولأن المفرد قد استكمل الإعراب بالحركات فلم يبق لهما إلا الإعراب بالحروف، فكان اختلاف الحروف فيهما بمنزلة اختلاف الحركات في المفرد.

    وكان ينبغي رفع التثنية والجمع بالواو ونصبهما بالألف وجرهما بالياء، فيكون كل حرف قائما مقام ما يجانسه من الحركة، فتقول في رفع التثنية ”جاء الزيدون” -بفتح الدال-، وتقول في الجمع ”جاء الزيدون” بضم الدال، فيحصل التفريق بينهما بحركة الدال.
    وتقول في جر التثنية ”مررت بالزيدين” -بفتح الدال-، وتقول في الجمع ”مررت بالزيدين” -بكسر الدال-، فيحصل التفريق بينهما بحركة الدال كذلك.
    وأما في حالة النصب فلا يتأتى إلا قولك ”رأيت الزيدان” -بفتح الدال-، فيقع اللبس بين التثنية والجمع ولا يحصل التمييز بينهما لأن ما قبل الألف لا يكون إلا مفتوحا.
    فلما كان النصب بالألف يوقع في اللبس أسقطوه وعوضوا منه النصب بالياء حملا له على الجر، فكانت الياء علامة مشتركة بين النصب والجر، ولا غرابة في ذلك إذ قد جعلوا الفتحة علامة مشتركة بين النصب والجر في باب الممنوع من الصرف، وجعلوا الكسرة علامة مشتركة بين النصب والجر في جمع المؤنث السالم، وجعلو بعض الضمائر المتصلة مشتركة في اللفظ في حالتي النصب والجر نحو: ”ضربك” و ”غلامك”، فجمع شيئين مختلفين في شيء واحد أمر جائز ومتفق عليه.

    وإنما حملوا النصب على الجر ولم يحملوه على الرفع لأمور:
    اولا: أن النصب والجر كلاهما فضلة في الكلام ولا يفتقر إليهما، وأما الرفع فهو عمدة لا يصح كلام دونه، فكان النصب أشبه وأقرب هو إلى الجر منه إلى الرفع، فحمله على الجر أولى لأنه فضلة مثله.
    ثانيا: أن المنصوب والمجرور قد يشتركان في المعنى نحو: ”مررت بزيد” أي: جزته.
    ثالثا: أن النصب والجر يشتركان في الضمائر نحو: ”مررت بك” و ”رأيتك”، ونحو: ”مررت به” و ”ضربته”.
    رابعا: أن الجر قد حمل على النصب في باب الممنوع من الصرف، فناسب حمل النصب على الجر أيضا للمشاكلة.
    خامسا: أن الجر أخف من الرفع، فناسب حمل الخفيف -الذي هو النصب- على الأخف لا على الثقيل.
    سادسا: أن الرفع يجاوز الأسماء إلى الأفعال بخلاف الجر فلا يدخل إلا على الاسم، فكان حمل النصب على الألزم أولى من حمله على المنتقل، لأن المختص بالشيء أولى بأن يكون متبوعا من غيره، وإذا حملنا النصب على الرفع نكون قد حملنا منتقلا على منتقل، لأن النصب أيضا ينتقل إلى الفعل فتساويا، ولا شك أن حق المتبوع أن يكون أمكن في بابه من التابع.

    وإذ امتنع النصب بالألف في التثنية والجمع؛ والعرب قصدت استعمال الحروف الثلاثة فيهما كما استعملت الحركات الثلاث في أصلهما -وهو المفرد-، لم يكن بد من جعل الألف علامة للرفع أو الجر، فجعلوها علامة لرفع التثنية ليحصل لها نوع تخفيف إذ الرفع بالألف أخف من الرفع بالواو، ولأن الألف أنسب هي للفتحة من الواو، وفي نفس الوقت تكون علامة فارقة بين تثنية المرفوع وجمعه.

    وإنما فتحت التثنية في الأصل لأنها سابقة الجمع فأخذت أخف الحركات، وكسر الجمع في حالة الجر ليحصل التفريق بينه وبين التثنية، فيكون ما قبل ياء التثنية مفتوحا وماقبل ياء الجمع مجرورا.
    ولم يضم ما قبل ياء الجمع لأن الكسرة أنسب لها من الضمة، وكذلك لو ضم لوجب قلب الياء واوا، لأن الياء الساكنة بعد الضمة تقلب واوا نحو: ”موقن”، وأصلها: ”مويقن” لأنها من أيقن، فإذا قلبت ياء الجمع واوا التبست حالة الجر والنصب بحالة الرفع.

    القول الثاني: أنهما يعربان بحركات مقدرة على الألف والواو والياء، وهذه الحروف حروف إعراب وليست علامات له، فهي بمنزلة دال ”زيد” وراء ”جعفر”، فالإعراب واقع عليها لا بها.
    وهذا الذي ذهب إليه سيبويه حيث قال (1 /17): (اعلم أنك إذا ثنيت الواحد لحقته زائدتان -أي زيادتان-، الأولى منهما حرف المد واللين، وهو حرف إعراب غير متحرك ولا منون).
    واستدلوا له بما يلي:
    أولا: أن علامات الإعراب يجوز سقوطها كسقوط الحركات من دال ”زيد” عند الوقف في نحو: ”رأيت زيد”، وكسقوط النون مع الناصب والجازم في الأمثلة الخمسة نحو: ”لن يفعلا” و ”لم يفعلوا”.
    وأما الألف والواو والياء فلا يجوز سقوطها البتة؛ لأنها دالة على معنى التثنية والجمع وبسقوطها يزول معناهما، كما لم يجز سقوط دال ”زيد” بحال من الأحوال، فدل ذلك على أنها حروف إعراب لا علامات له.

    ثانيا: أن الإعراب لا يدخل الكلمة إلا بعد تمام دلالتها على معناها، نحو: ”جاء رجل” و ”رأيت رجلا” و ”مررت برجل”، فلا يأتي الإعراب إلا بعد تمام معنى الكلمة، والتثنية والجمع لا يتم معناهما إلا بعد مجيء حروف المد، فصارت هذه الحروف بمنزلة آخر حرف الكلمة الذي يكتمل عنده المعنى، فوجب أن تكون بمنزلة حرف الإعراب في المفرد، فيقع عليها الإعراب كما يقع عليه، ولذلك لم يجز سقوط هذه الحروف أبدا، لأن بزوالها يزول معنى التثنية والجمع.

    فإن قيل: إن حروف الإعراب لا تتغير ذواتها في حالة الرفع والنصب والجر في المفرد؛ فلماذا تغيرت في التثنية والجمع؟
    الجواب:
    أن التثنية الجمع لما انفردا بهذا النوع من الإعراب استحقا حينئذ التغيير، وذلك أن لكل اسم معتل نظير من الصحيح تدخله الحركات فيستدل به على إعرابه، نحو: ”قفا” و ”عصا”، فنظيرهما: ”جبل” و ”جمل”، فإعراب الصحيح يدل على إعراب المعتل، لأنهما يعربان نفس الإعراب إلا أن الصحيح تظهر عليه الحركات بينما المعتل لا تظهر عليه، فيستدل بالإعراب الظاهر على الإعراب المقدر.
    وأما التثنية والجمع فليس لهما نظير يعرب بإعرابهما إلا تثنية أو جمع مثلهما، فلما فقدا نظيرا يدل على مثل إعرابهما عوض لهما تغيير الحروف فيهما.
    وكذلك جعلوا اختلاف الحروف فيهما بمنزلة اختلاف الحركات في المفرد -كما تقدم-.

    وقد تكلف بعضهم في حمل كلام سيبويه على أن هذه الحروف علامات إعراب؛ فقالوا معنى قوله: (وهو حرف إعراب)، أي: حرف يقع به الإعراب، بمعنى هو حرف أعرب به الاسم، ولا يخفى بعده عن الصواب.
    ومما يدل على أن سيبويه إنما قصد حرف الإعراب حقيقة أنه قال (1 /18): (لأنهم جعلوا التاء التي هي حرف الإعراب كالواو والياء)، والتاء يقع عليها الإعراب ولا يقع بها اتفاقا.


    تقدير الحركة على حروف المد في التثنية والجمع:
    اختلف مفسروا كلام سيبويه هل هذه الحروف التي هي حروف إعراب تتضمن حركات مقدرة أو لا.
    المذهب الأول: قالوا إنها تقدر عليها الحركات كما تقدر في ”قفا” و ”عصا”، فتكون الألف والواو والنون بمنزلة ألف ”ققا” و ”عصا” في كونها تدل على تمام معنى الكلمة عندها، وفي كونها حروفا يقع عليها الإعراب.
    ولكن لا تقدر عليها الحركات مطلقات كما تقدر في ألف ”قفا” و ”عصا”، وإنما يقدر على الألف والواو خصوص الضمة، ويقدر على الياء خصوص الفتحة والكسرة.
    فإذا تقرر هذا تبين أن هذه الحروف بمنزلة دال ”زيد” وحركتها، فالألف والواو بمنزلة الدال وضمتها في الرفع، نحو قولك: ”جاء زيد”، والياء بمنزلة الدال وكسرتها في الجر، نحو قولك: ”مررت بزيد”، أو فتحتها في النصب، نحو قولك: ”رأيت زيدا”، فليست بمنزلة الدال المجردة من الحركة، وليست بمنزلة الحركة المفردة.

    أما الدليل على أنها ليست بمنزلة الدال المجردة من الحركة؛ أنك تقول: ”ضرب رجلان”، وتستفيد من الألف الإعراب الذي هو كون الكلمة مرفوعة، فلا تقول مثلا: ”رأيت رجلان”، لعلمك ضرورة أن الألف بمنزلة حرف الإعراب المرفوع.
    بخلاف الدال من ”زيد” في نحو قولك: ”ضرب زيد”؛ إذا وقفت عليها بالسكون، فإنه لا يتصور بها إعراب لاحتمالها الرفع والنصب.
    وأما الدليل على أنها ليست بمنزلة الحركة المفردة؛ أنك لو أسقطت الألف في نحو: ”جاء رجلان” بطل معنى الاسم، ولو أسقطت الحركة من ”زيد” وقلت: ”جاء زيد” بالسكون؛ لم يبطل معنى الاسم، وإنما يزول الإعراب فقط، فلما كان سقوط الألف يزيل معنى الكلمة علم أنها بمنزلة الدال وحركتها، إذ لو كانت الالف بمنزلة الحركة دون الدال لما زال معنى الكلمة بسقوطها.
    والياء مثل الألف فيما تقدم، وهي بمنزلة الدال وكسرتها في الجر، وتبعه النصب.

    فالألف والواو والياء حروف إعراب متضمنة لعلامات الإعراب، ومن هنا تظهر لك عبقرية سيبويه حيث قال: (وهو حرف إعراب غير متحرك ولا منون)، فليس المراد بقوله: (غير متحرك) كونه لا يقبل الحركات لأن كل أحد يعلم ضرورة ان حروف المد لا تقبل التحريك، وليس هو بصدد بيان الواضحات، وإنما أراد أنها لا تتحرك تحرك ”قفا” و ”عصا” في كونهما تقدر عليهما جميع الحركات، وإنما تقدر على الألف والواو الضمة فقط، وتقدر على الياء الكسرة والفتحة.

    وقوله: (ولا منون)، اي ليست النون في نحو: ”رجلان” تنوينا تحرك لالتقاء الساكنين كما هو الحال في ”عصا”، واصلها: ”عصي”، والقاعدة عندهم أنه إذا تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فإنه يقلب ألفا؛ فقالوا: ”عصان”، فالتقى ساكنان: الألف المنقلبة عن الياء، ونون التنوين، والقاعدة عندهم أنه إذا التقى ساكنان وكان اولهما مدة فإنه يحذف، فحذفوا الألف وقالوا: ”عصا” -بالتنوين-، وهذه الألف ترسم في الخط فقط وإلا فإن الإعراب واقع على الألف المحذوفة.
    فليست نون ”رجلان” نون تنوين مثل نون ”عصان” تحركت لالتقاء الساكنين، وكان الأصل أن تقسط الألف لكن منع من ذلك مانع وهو زوال معنى التثنية فلم يبق إلا تحريك النون، وإنما جاؤوا بالنون تعويضا لما فات الاسم من التحريك والتنوين، على ما اختاره سيبويه، فهذه نون زائدة بمنزلة التنوين في المفرد وليست تنوينا، وسيأتي الكلام عليها.

    ورد هذا القول بأنه لو كانت تقدر عليها الحركات لظهرت الفتحة في نحو: ”رأيت بنيك”، لخفتها كما تظهر في نحو ” رأيت جواريك”، مع ما فيها من زيادة الثقل، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم.
    وجوابه:
    أن ياء ”جوار” تقدر عليها جميع الحركات ولا تظهر الضمة والكسرة للثقل؛ ولما سلمت الفتحة من ذلك ظهرت، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما.
    وأما ياء التثنية فإنه لا يقدر عليها إلا الكسرة والياء؛ فلما كان التقدير فيها على خلاف الأصل -إذ الأصل تقدير جميع الحركات- كان نصبه بالفتحة على خلاف الأصل، فلم تظهر كما ظهر في غير التثنية.
    ولأن ”جوار” لها نظير من الصحيح ينصب بالفتحة نحو: ”عوامل” و ”جوامع”، بخلاف التثنية -كما تقدم-.
    ولأن الفتحة في التثنية تابعة للكسرة؛ فلما كانت الكسرة مقدرة أبدا أخذ التابع حكم المتبوع.

    وأوردوا عليه أيضا أن علامات الإعراب تلازم عواملها التي تحدثها، قد وجدت الألف والواو ملازمتين لعوامل الرفع، ووجدت الياء ملازمة لعوامل الجر والنصب، فدل ذلك على ان هذه الحروف علامات للإعراب وليست حروفا يقع عليها الإعراب.
    فإذا تقرر هذا لم يصح جعل العلامات مقدر عليها العلامات!
    وجوابه:
    أننا لم ندع أن هذه الحروف حروف إعراب مطلقا؛ بل قلنا إن الألف والواو حرفا إعراب مقدر عليهما خصوص الضمة، والياء تقدر عليها خصوص الكسرة والياء بحسب العامل، فصارت الألف والواو ملازمتين للضمة التي يحدثها عامل الرفع، وصارت الياء ملازمة للكسرة التي يحدثها عامل الجر، وللفتحة التي يحدثها عامل النصب، فصارت هذه الحروف ملازمة لعوامل مخصوصة بسبب ما تضمنته من أثر مخصوص، بعبارة أخرى: كانت الألف والواو ملازمتين لعامل الرفع لا لكونهما علامتين له بل لتضمنهما علامته التي هي الضمة، وكانت الياء ملازمة لعامل الجر لا لكونها علامة له وإنما لكونها متضمنة لأثره الذي هو الكسرة، والنصب محمول على الجر، فانتفى اللازم وإذ انتفى انتفى الملزوم.
    وإنما لم يصح جعلها علامات لأن العلامة يصح سقوطها دون تغير معنى الكلمة، وهذه الحروف لا يصح سقوطها إذ بزوالها يزول معنى الكلمة، فوجب كونها حروف إعراب؛ إذ لا تخرج عن الاحتمالين، فإذا بطل أحدها ثبت الآخر.

    وأوردوا عليه أيضا أنه لو كان إعراب التثنية والجمع بالحركات المقدرة لم يحصل للمفرد الذي هو أشرف منهما مزية عليهما، إذ المقدر كالمذكور.
    وجوابه:
    أن المزية قد حصلت للمفرد من جهة جريان جميع الحركات على آخره الذي هو غير متغير، بخلاف التثنية والجمع فإن حرف الإعراب في حالة الرفع غير حرف الإعراب في حالتي الجر والنصب، ولا يقدر في كل واحد منهما إلا حركة واحدة فقط في الأصل، ثم حملت الفتحة على الكسرة فقدرت على الياء، فحصلت المزية.

    المذهب الثاني: قالوا لا تقدر عليها الحركات؛ لأن الحركات وضعت للدلالة على نوع الإعراب الذي دخل الكلمة، وهذه الحركات لا يمكن إدخالها على التثنية والجمع إذ لا نظير لهما غير التثنية والجمع نستدل به على إعرابهما كما دلنا إعراب ”جمل” و ”جبل” على إعراب ”قفا” و ”عصا”، فامتنع التقدير.
    وقالوا هذا هو مراد سيبويه بقوله: (وهو حرف إعراب غير محرك)، إذ سيبويه لم يقصد بيان الواضحات -كما تقدم- وإنما اراد أنه لا يتحرك تحرك ”قفا” و ”عصا” في تقدير الحركات عليها.
    وجوابه:
    أن هذا باطل؛ إذ ما من كلمة متمكنة إلا ولها علامة إعراب، وإذا كانت هذه الحروف حروف إعراب فلا مناص من تقدير الحركات عليها، وإلا لما كانت حروف إعراب! ولبقيت الكلمة دون إعراب.
    وصحيح أنه ليس للتثنية والجمع نظير يدلنا على إعرابهما لكن وجدنا شيئا آخر دلنا على إعرابهما وهو ملازمة العامل المخصوص، فلما كانت الألف والواو ملازمتين لعامل الرفع دون غيره علمنا أن ثمة ضمة مقدر عليهما، ولما كانت الياء ملازمة لعاملي الجر والنصب دون غيرهما علمنا أن ثمة كسرة وفتحة مقدرة.


    زيادة النون في التثنية والجمع:
    إنما زيدت النون في التثنية والجمع تعويضا لما فاتهما من الحركة والتنوين، فلما كانت الحركة ممتنعة فيهما وكذلك التنوين الذي هو علامة تمكن الاسم عوض لهما من ذلك نونا في الآخر.
    وكان القياس أن يزاد في آخرهما أحد حروف المد واللين، ولكن ذلك يؤدي إلى قلبه أو تغيير ما قبله أو حذفه كما هو مقرر في علم التصريف، فلم يجدوا من حروف الصحة أقرب إلى حروف المد واللين من النون، لأن حذفها يكون علامة للإعراب -في الأمثلة الخمسة- كما أن حذف حرف العلة يكون كذلك، وتزاد كما تزاد حروف اللين، وتدغم مع الواو والياء، وتقلب ألفا عند الوقق على التنوين المنصوب.

    والدليل على أنها عوض من تنوين المفرد أنها تسقط في الإضافة كما يسقط التنوين، وإنما ولم تسقط مع الألف واللام لأن هذه النون متحركة وثابتة في الوقف، بخلاف التنوين فهو نون ساكنة تسقط في الوقف؛ فلم تقو حتى تثبت مع الألف واللام بخلاف المتحركة.
    ولأن حذفها في الإضافة أسهل لوجود ما يقوم مقامها وهو المضاف إليه، بخلاف المعرف بأل فإذا حذفت معه النون لم يوجد شيء آخر يقوم مقامها.

    وقيل: إنما زيدت النون في التثنية والجمع لرفع توهم الإضافة والإفراد، ألا ترى أنك لو قلت: ”جاء بني كرماء”، لتوهم السامع أن الذين جاؤوا هم أبناء لأناس كرماء، بينما المقصود أن الذين جاؤوا هم أبناء متصفون بالكرم.
    وكذلك لو قلت: ”مررت بالمهتدي” لتوهم أنك مررت بمهتد واحد بينما أنت تريد الجمع.
    فيؤتى بالنون في المثالين لرفع توهم الإضافة والإفراد.


    حركة نون التثنية والجمع:
    وإنما زيدت النون أولا في التثنية لأنها سابقة للجمع، وكسرت لالتقاء الساكنين؛ إذ الكسر هو الأصل في التخلص منهما، فإذا التقى ساكنان وكان أولهما حرف لين وجب حذفه، والحذف هنا يفوت الدلالة على التثنية فامتنع الحذف، فعومل الأول معاملة الصحيح وحرك الثاني.
    وإنما كانت الكسرة هي الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، لأن الضمة والفتحة قد يقعان في المعرب ولا تنوين معهما، نحو: ”جاء أحمد”، و ”رأيت أحمد”، فلو حرك الثاني بالضمة أوالفتحة لالتبست حركة البناء بحركة الإعراب.
    وأما الكسرة فلا تكون إعرابا إلا ومعها التنوين أو ما يقوم مقامه من الإضافة والألف واللام، نحو: ”مررت بغلام” او ”بالغلام” او ”بغلام زيد”، فلما اضطروا إلى التحريك أتوا بحركة لا تلتبس بحركة الإعراب وهي الكسرة، لأنها لا تكون حركة إعراب إلا ومعها التنوين أو ما يقوم مقامه؛ فلما أتوا بالكسرة وليس معها تنوين ولا ما يقوم مقامه علم انها كسرة بناء وليست كسرة إعراب.

    ولأن السكون علامة لجزم الفعل؛ ونظيره في الأسماء الجر وعلامته الكسرة، فلما اضطروا إلى تحريك الساكن أعطوه حركة نظيره وهي الكسرة.

    ولأنهم قصدوا التفريق بين التثنية والجمع بالحروف الداخلة عليهما وبحركة ما قبلها؛ فأرادوا ان يفرقوا بينهما أيضا بحركة النون، ولم يمكن ان تكون حركتها إلا فتحة أو كسرة؛ لأن التثنية والجمع ثقيلان في المعنى واللفظ، اما من جهة المعنى فلدلالتهما على أكثر من واحد، واما من جهة اللفظ فللزيادة في آخرهما، والضمة أثقل الحركات فامتنعت فيهما لئلا تزيدهما ثقلا، فلم يبق إلا الفتحة والكسرة؛ ولما كانت التثنية أخف من الجمع أخذت الحركة الثقيلة وهي الكسرة، ولما كان الجمع أثقل من التثنية أخذ الحركة الخفيفة وهي الفتحة، فتعادلا.
    ولو عكسوا لكانت نون الجمع مكسورة في حالة الرفع، فيحصل الانتقال من الضمة إلى الكسرة ولا فاصل بينهما إلا السكون وهو حاجز غير حصين، والانتقال من الضمة إلى الكسرة مخصوص عندهم بالفعل المركب للنائب على نزاع في ذلك.
    ولكانت الكسرة في حالتي النصب والجر واقعة بعد الكسرة والياء، والكسرة أخت الياء؛ فيجتمع شبه ثلاث ياءات، وتوالي الأمثال ممتنع عندهم، ولذلك أوجبوا قلب المثل الثالث ألفا في نحو: ”تظنن” وقالوا: ”تظنى”.


    زيادة الألف والتاء في جمع المؤنث:
    إنما وجب زيادة الألف والتاء في جمع التأنيث لما تقدم من أن معنى الجمع مخالف لمعنى المفرد والتثنية، فكان لابد له من علامة تميزه عن غيره، وتقدم ان حروف المد أولى بالزيادة من غيرها؛ وإنما كانت الألف أولى بهذا الموضع من غيرها لخفتها؛ فناسبت الثقل المعنوي واللفظي في جمع التأنيث، أما الثقل المعنوي فلأن مدلول الجمع أكثر من فردين، وأما الثقل اللفظي فلأن التانيث لابد له من علامة لازمة فيه؛ وهذا يكسب الكلمة مزيد ثقل.
    ووجبت زيادة حرف آخر بعد الألف لئلا يلتبس الجمع بالتثنية، وتعذر زيادة حرف مد آخر بعد الألف ﻷن ذلك يؤدي إلى إبداله همزة كما هو مقرر في علم التصريف، فكانت التاء أولى بالزيادة في هذا الموضع لأنها قريبة من حروف المد إذ تبدل من الواو في نحو: ”وخمة” و ”ووجاه”، فتقول: ”تخمة” و ”تجاه”.
    ولأنها حرف صحيح يقع عليها الإعراب الظاهر، ولأنها علامة تأنيث المفرد؛ فتحصل بها الدلالة على التأنيث.
    فيظهر من هذا أن جمع التأنيث خالف جمع الذكور في كون إعرابه بالحركات وكون الزيادة فيه ثابتة غير متغيرة.
    ولم تجعل الزيادة الثانية في جمع التأنيث نونا لئلا يلتبس الجمع بالتثنية.


    حذف تاء المفرد:
    وإنما حذفوا تاء المفرد لئلا تجتمع علامتا تأنيث في كلمة واحدة، فلا تقول في جمع ”مسلمة”: ”مسلمتات”، وإنما تحذف التاء الأولى وتكتفي بالثاتية.


    التاء هي حرف الإعراب:
    وإنما كانت التاء هي حرف الإعراب لأنها بمنزلة الواو والياء في جميع المذكر على مذهب سيبويه، فكما أن الواو والياء هما حرفا إعراب لتمام معنى عندهما فكذلك التاء -التي هي بمنزلتهما- لتمام معنى الجمعية والتأنيث عندها، وإنما كان الإعراب فيها ظاهرا إذ لا مانع منه ولا موجب للتقدير.
    ولأن معنى جمع التأنيث لا يتم إلا عند التاء فوجب أن تكون هي حرف الإعراب.

    وانتقد سيبويه في قوله: (لأنها -أي التاء- نظيرة الواو والياء في التذكير)، إذ إن التاء في الحقيقة ليست نظيرة الواو والياء؛ لأن الواو نظيرتها الضمة في جمع المؤنث، والياء نظيرتها الكسرة والفتحة، وذلك أن النون في جمع المؤنث واقعة بعد الحركة لا بعد التاء.
    وجوابه:
    أن سيبويه أراد بذلك كون التاء حرف إعراب كما أن الواو والياء حرفا إعراب، وأما النون فإنما وقعت بعد الحركات في جمع المؤنث لأن التاء حرف صحيح يقبل التحريك؛ والأصل في التنوين أن يلحق آخر الكلمة، وإنما باشرت الواو والياء في جمع المذكر لامتناع ظهور الحركات.


    ليست التاء بمنزلة نون الجمع:
    وليست هذه التاء بمنزلة النون في جمع المذكر؛ لأن زوال النون مع الإضافة لا يزيل معنى الجمعية بخلاف التاء؛ فلو قلت: ”مسلماك”، لكان تثنية لا جمعا، بخلاف: ”مسلماتك”.
    ولأن نون المذكر -عند سيبويه- عوض لما فات الجمع من الحركة والتنوين، وأما التاء فقد دخلتها الحركة والتنوين فلا حاجة للتعويض.
    وأما عند غيره فالنون لرفع توهم الإضافة والإفراد؛ وذلك التوهم غير حاصل مع جمع التأنيث.


    إعراب جمع المؤنث بالحركات:
    إنما أعرب جمع المؤنث بالحركات لأن آخره حرف صحيح يقبل التحريك، فكان رفعه بالضمة وجره بالكسرة على الأصل، ثم حمل النصب على الجر كما حمل عليه في جمع الذكور حيث يجر وينصب بالياء، فكان جر جمع الإناث ونصبه بالكسرة.

    التنوين في جمع المؤنث:
    إنما لحق جمع المؤنث نون ساكنة في آخره حملا له على جمع المذكر، فليس هذا التنوين دالا على تمكن بل هو في مقابلة نون المذكر.
    والدليل على ذلك أنه ليس تنوين تمكن أنه يلحق الجمع المسمى به، نحو: ”أذرعات” و ”عرفات”، ولو كان تنوين تمكن لوجب سقوطه للعلمية والتأنيث، والممنوع من الصرف لا يلحقه تنوين التمكين.
    ولما كانت التاء بمنزلة الواو والياء من الجمع المذكر وهما تلحقهما نون ساكنة كذلك ألحقوها نظيرتهما التي هي التاء.

    وآخره وصلى الله على نبينا محمد.


    بيضه: أبو قيس عماد البجائي.
    صبيحة يوم: الخميس 25 ذي الحجة 1439.
    الموافق: 06 سيبتمبر 2018.

  • #2
    باركَ اللهُ فيكَ أخي عِمَاد، شرحٌ طَيِّبٌ.
    وددتُ لو أنَّكَ تُجَمِّلُ موضوعكَ بالعزوِ، فتعزو الأقوالَ والمذاهبَ إلى أصحابها لما لذلكَ منَ الأهَمِّيَّةِ كم لا يخفى عليكَ، معَ المحافظةِ على صياغتكَ وأسلوبكَ.

    وبانتظارِ المَزِيدِ منَ الشَّرْحِ، نفعَ اللهُ بكَ أَخِي عِمَاد.

    تعليق


    • #3
      بارك الله فيك ..

      تعليق

      الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 1 زوار)
      يعمل...
      X