إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

من روائع محمود الطناحي { لسان العرب لابن منظور }

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • من روائع محمود الطناحي { لسان العرب لابن منظور }

    ○ لسان العرب لابن منظور

    خرج من مصر - تأليفة وطباعة - أضخم معجمين في تاريخ المعاجم العربية : لسان العرب لابن منظور المتوفی ( ۷۱۱ ه )، وتاج العروس من جواهر القاموس للمرتضى الزبيدي المتوفي في سنة ( ۱۲۰۰ ه). ومع أن تاج العروس هو أغزر المعاجم اللغوية مادة وأكثرها شمولا، فإن لسان العرب قد ذهب بالشهرة كلها : الأسباب ودواع يأتيك حديثها.

    وابن منظور: هو أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن علي الأنصاري الإفريقي المصري، ينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل رويفع بن ثابت رضي الله عنه ، وقد ذكر ابن منظور هذا النسب في مادة (جرب) من اللسان .

    ولد ابن منظور يقينا بالقاهرة سنة ( 630 ه )، ونشأ بها وتعلم وصنف، وتوفي سنة ( ۷۱۱ ه) ودفن بقرافتها. و «الإفريقي في نسبه معناها التونسي، فقد كانت إفريقية في ذلك الزمان يراد بها تونس الآن. وقد ولد جد ابن منظور علي» في تونس، ثم غادرها إلى القاهرة، وبها ولد ابنه مركم، والد ابن منظور، ثم ولد هذا وإخوته بها . وقد ذهب بعضهم إلى أن ابن منظور ولد بتونس، وذهب آخرون إلى أنه ولد بطرابلس الغرب.

    يقول الدكتور إحسان عباس : وقد ثار في السنوات الأخيرة جدل حول منتمی ابن منظور، أملته النظرة الإقليمية، أهو إفريقي أم مصري ... ولو تأملت هذا الكلام من جميع هؤلاء الدارسين لتملكك العجب، ودهشت لهذا الذي يجري في الدراسات والتحقيقات، من استنامة إلى السهول والتساهل ، مع أن الأدفوي يقول في البدر السافر : محمد بن مكرم الإفريقي المحتد القاهري المولد. وهذا ابن سعید يروي نقلا عن المكرم نفسه والد محمد، أنه أي المركم - ولد بالقاهرة. فإذا كان الأب نفسه ولد بالقاهرة فبأي حق يفتش الدارسون عن عبقرية إفريقية (تونسية) ولدي ابن منظور؟».

    ومهما يكن من أمر فقد عرف ابن منظور بالاشتغال بالأدب، نظم ونثرة، مع معرفة بالنحو واللغة والتاريخ، وتولى كتابة الإنشاء بالدولة، وكان كثير النسخ، ذا خط حسن. وقد شهر باختصار الكتب .

    ○ التصنيف والتدوین :

    ومع هذا النشاط الظاهر في الاشتغال بعلوم العربية واختصار مصنفاتها، فما عرف ابن منظور وما شهر إلا بكتابه العظيم : لسان العرب.

    وقد جاء ابن منظور بعدما استقر التأليف المعجمي، واتضحت طرائقه ومدارسه. وقد بدأ التصنيف المعجمي - كما هو معروف - موازية للتدوين في علوم العربية، في النصف الأول من القرن الثاني، وتمثل ذلك في تلكم الرسائل الصغيرة التي تناولت موضوعات بعينها، مثل ما كتب في خلق الإنسان والبهائم والحشرات ، والإبل والخيل والنخل والنبات والمطر واللبن، وما كتب في نوادر الأبنية ، ثم ما كتب في غريب القرآن والحديث. قام بهذا اللغويون الأوائل، مثل أبي خيرة الأعرابي، وأبي عمرو بن العلاء، وأبي مالك الأعرابي، وأبي زيد، والأصمعي، وأبي عبيدة معمر بن المثنى، وأبي عبيد القاسم بن سلام.

    وفي ذلك الزمان أيضا قام الخليل بن أحمد بتصنيف أول معجم متكامل، وهو المعجم الرائد «العين» الذي رتبه على مخارج الحروف. وبجانب هذا التأليف المعجمي الخالص الذي بدأه الخليل قام العلماء من النحاة واللغويين بصنع دواوين الشعراء وشرحها، من أمثال الأصمعي وتلميذه أبي نصر الباهلي، وأبي عمرو الشيباني وابن السكيت وثعلب والسكري. وقد قدم هؤلاء مادة لغوية غزيرة من خلال شرح ما صنعوه وما جمعوه من شعر.

    هذا إلى اهتمام علماء كل فن وعلم باللغة، يقدمونها أمام كل بحث، ويعنون بها قبل كل كلام. ولا عجب في هذا، فاللغة هي المدخل الحقيقي لمعرفة علومنا كلها وتاريخنا كله، والاستهانة بها والتفريط في قواعدها ورسومها إنما هي استهانة وتفريط بمعارفنا وعلومنا كلها.

    وقد انتهى إلى ابن منظور حصاد طيب في التصنيف المعجمي، نظر فيه واستصفى منه خمسة كتب بني عليها معجمه، وهذه الكتب بحسب ذكره لها : تهذيب اللغة للأزهري (۳۷۰ه)، المحكم لابن سيده (458ه)، والصحاح للجوهري (حدود 400ه)، والحواشي عليه لابن بري المصري (۰۸۲ ه) وتسمى هذه الحواشي : التنبيه والإيضاح عما وقع في الصحاح. النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (606ه).

    وتمثل هذه المراجع الخمسة ثلاث مدارس في التأليف المعجمي : المدرسة الأولى ، مدرسة ترتيب المواد اللغوية وفق مخارج الحروف، وهي مدرسة الخليل بن أحمد، ويمثلها من هذه الكتب : التهذيب والمحكم. والمدرسة الثانية : التي ترتب المواد على الجذور اللغوية (أصل الاشتقاق) واعتبار الحرف الأخير منها بابا والحرف الأول فصلا، مع مراعاة الترتيب الألفبائي فيما بين حرفي الباب والفصل . ويمثل هذه المدرسة الصحاح وحواشيه. والمدرسة الثالثة : التي ترتب المواد وفق الأول والثاني والثالث. ويمثلها النهاية .

    وقد ارتضی ابن منظور من مناهج هذه المدارس منهج المدرسة الثانية، مدرسة الصحاح، ورتب كتابه على أساسها، وأخضع المدرستين الأخريين لها. وقد صدر ابن منظور معجمه بمقدمة أبان فيها عن منهجه، وأنبأنا أنه تغيا من تأليفه هذا غايات ثلاثا:

    الغاية الأولى تعليمية، وتمثلت في نقده لطريقة ترتيب المواد وفق المخارج، ويصف ذلك بقوله: إنه «مطلب عسر المهلك، ومنهل وعر المسلك، وكأن واضعه شرع للناس موردا عذبة وحلأهم عنه».

    ○ غيرته على العربية :

    والغاية الثانية غاية دينية ، يقول: «إني لم أقصد سوى حفظ أصول هذه اللغة النبوية وضبط فضلها، إذ عليها مدار أحكام الكتاب العزيز والسنة النبوية».

    وتأتي الغاية الثالثة، ويمكن أن نسميها غاية قومية وطنية، باعثها الغيرة على العربية والعصبية لها، بعد أن اطرح الناس الحديث بالعربية، وهجروها إلى اللغة الأعجمية وهي التركية في ذلك الزمان - يقول ابن منظور: وذلك لما رأيته قد غلب في هذا الأوان من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أصبح اللحن في الكلام يعد لحنا مردودة، وصار النطق بالعربية من المعایب معدودة، وتنافس الناس في تصانیف الترجمانات في اللغة الأعجمية، وتفاصحوا في غير اللغة العربية ، فجمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح الفلك وقومه منه يسخرون».

    هذا ما قاله ابن منظور منذ سبعمائة عام عن حال اللغة العربية بإزاء اللغة الأجنبية، فماذا نحن قائلون الآن؟.

    ويصرح ابن منظور في مقدمته بأن عمله في معجمه لم يخرج عن حدود ما في مراجعه الخمسة، فيقول: «وليس لي في هذا الكتاب فضيلة أمت بها ولا وسيلة أمسك بسببها سوى أني جمعت فيه ما تفرق في تلك الكتب من العلوم... فمن وقف فيه على صواب أو زلل أو صحة أو خلل فعهدته على المصنف الأول، وحمده وذمه لأصله الذي عليه المعول؛ لأنني نقلت من كل أصل مضمونه، ولم أبدل منه شيئا فيقال: «فإنما إثمه على الذين يبذلونه).

    وقد أغرى هذا الكلام كثيرة من الباحثين، وثبت لديهم أن ليس لابن منظور في اللسان» إلا الجمع والترتيب. والحقيقة أن هذا الكلام جرى على لسان ابن منظور على سبيل التواضع وهضم النفس، وهو نمط من الكلام معهود عند كثير من أهل العلم فينا الذين لا يذهبون عن أنفسهم، ولا يتعلقون بالباطل فيضعون أنفسهم فوق هامات السابقين، وإنما يظهر الكبر ويفشو العجب بالنفس عندما تضعف العزائم وتصغر النفوس .

    فابن منظور لم يقف عند هذه الكتب الخمسة وحدها، فقد استطرد إلى ذكر فوائد من قراءاته وسماعاته، وحكي عن معاصريه من العلماء، ونقل نقد العلماء لما بين يديه من مواد.

    هذا وقد ضم «اللسان» قدرة هائلا من المواد اللغوية، ممزوجة بمعارف أخرى استمدها من مراجعه الخمسة المذكرة بمناهجها واهتماماتها المختلفة : فقد أخذ من تهذيب الأزهري هذا القدر الضخم من الأبنية والمترادفات والمشترك اللفظي، وشواهد القرآن الكريم والحديث الشريف، وأشعار العرب وأقوالها وأمثالها، إلى جانب ذلك الاهتمام المبكر بالناحية البلدانية الجغرافية التي استوعب بها الأزهري التعريف بكثير من بلدان ومواضع ومياه الجزيرة العربية ، مما كان أساسا للجغرافيين العرب من بعد، مثل أبي عبيد البكري في معجم ما استعجم»، وياقوت في «معجم البلدان»، وللغويين الذين اهتموا بالمواضع والبلدان، من أمثال الفيروزآبادي في القاموس المحیط، والزبيدي في «تاج العروس».

    ثم أخذ عن الجوهري وابن سيده ما ضمناه معجميهما من التوجيهات النحوية والصرفية وقضايا الاشتقاق .

    ومن ابن بري أخذ عنايته الفائقة بتصحيح الشواهد الشعرية وتحريرها ونسبتها . ومن ابن الأثير شرحه لغريب أحاديث رسول الله ، وكلام الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.

    ○ الأدب سبيل المعرفة :

    أخذ ابن منظور هذا كله، وأضاف إليه قراءاته ومسموعاته، وأحسن جمعه وترتيبته ، وأجاد عرضه، وأعانه على ذلك اشتغاله بالأدب. وقد كان الأدب ولا يزال خير سبيل لإيصال المعرفة، وسرعة انصبابها إلى السمع، واستيلائها على النفس، والبليغ يضع لسانه حيث أراد، ويمهد لنفسه طريقة إلى كل قلب، وإنك لتجد كثيرة من الدراسات قد جمعت فأوعت، لكنها لم تبلغ مبلغها من النفع والفائدة لجفافها وعسرها وتجافيها عن الأدب.

    وبذلك أصبح السان العرب، كتاب العربية، يجد فيه طالبه كل ما يريد، وأصبحت قراءته متعة تطلب لذاتها، إذ سلم من جفاف المعاجم التي تقف عند حدود الدلالة وشرح اللفظ المفرد أو التركيب المعزول عن سياقه، وكم عرفنا من أدباء وعلماء يديمون قراءة «اللسان» كما يقرأ أحدهم كتابة للشافعي أو الجاحظ أو أبي حیان .

    وقد أخبرني شيخي محمود محمد شاكر - حفظه الله - أنه قرأ السان العرب» كله وهو تلميذ بالثانوي، ثم أخبرني أيضا أن أمير الشعراء أحمد شوقي قرأ «اللسان» كله. قلت: ولعل هذا يفسر لنا «معجم شوقي الشعري» - والنثري أيضا في أسواق الذهب - هذا المعجم الذي يدهشنا بهذه الألفاظ والتراكيب الضاربة في الفصاحة بعروقها.

    وما أحرانا أن ندفع أبناءنا في كليات الدراسات العربية والإسلامية، إلى قراءة المعاجم، وكثرة التفتيش فيها والصبر عليها، بدلا من وقوفنا بهم عند حدود تلك الدراسات النظرية التي تتناول نشأة المعجم ومدارسها، ثم تنتقل إلى ذكر عيوب المعجم العربي. ولئن سلمنا ببعض هذه العيوب فإنها مما لا ينبغي أن تعرض على طالب العلم في مراحله الأولى، بل يؤجل ذلك وأشباهه إلى مراحل الدراسات العليا، لأنه لا يصح بحال أن نكشف لصغار الطلبة - وهم في هذه المرحلة الجامعية الأولى - عن أبواب النقد هذه، وأن ندلهم عليها، فإن مداركهم تقصر عن إدراك تلك المرامي البعيدة، فضلا عما يحدثه ذلك في نفوسهم من زلزلة وبلبلة قد تزهدهم في العلم كله.

    ومن آدابنا في ذلك ما ذكره أبو داود في رسالته إلى أهل مكة، قال: «إنه ضرر على العامة أن يكشف لهم كل ما كان من هذا الباب فيما مضى من عيوب الحديث : لأن علم العامة يقصر عن مثل هذا، قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: «وهذا كما قال أبو داود، فإن العامة تقصر أفهامهم عن مثل ذلك، وربما ساء ظنهم بالحديث جملة إذا سمعوا ذلك» - شرح علل الترمذي ص 534.

    ○ طبعات اللسان :

    كان من حظ كثير من آثارنا الكبرى أن تطبع في ذلك الزمان الرخي المهنيء، حيث كانت مصر تشع علما وحضارة، فعلماؤها مستقرون، ومكتباتها زاخرة، ومجالس العلم بها مشهودة، واحترام العربية باسط سلطانه، والحياء عاصم، والنقد بالمرصاد.

    وكانت مطبعة بولاق الكبرى في ذلك الزمان منارة علم باذخ ، ومركز ضوء باهر، وقد طبعت من أصول العلم وكبار الكتب ما أخرج الناس من الظلمات إلى النور . وكان من أجل مطبوعاتها "لسان العرب " ما بين سنتي ١٣٠٠ هـ- ١٣٠٧ هـ، وقد اجتمع لهذه الطبعة من آيات الِإتفان والكمال ما لم يجتمع في كتاب : فالنسخ المخطوطة جيدة ، والضبط كامل تغلب عليه السلامة ، والتصحيح دقيق ، حيث كان يتولى التصحيح بمطبعة بولاق مشيخة جليلة من علماء الأزهر الشريف . وقد جاءت هذه الطبعة في عشرين مجلداً من القطع الكبير ، متوسط كل مجلد ٤٥٠ صفحة.

    ثم كانت النشرة الثانية للكتاب بدار صادر ببيروت سنة ١٩٥٥ م في 65 جزءأ صغيراً جُعلت بعد ذلك في 15 مجلداً، ويقول عن هذه النشرة شيخنا عبد السلام هارون رحمه اللّه : " وكان من المتوقع أن تسلم هذه النشرة من كثير من أخطاء النشرة الأولى ، ولكن من المؤسف أن الأخطاء والتحريفات التي وردت في النشرة الأولى، أي طبعة بولاق ، قد زيد عليها كثير من أمثالها ، وإن كان من الحق ان بعض الأخطاء
    القديمة قد عولج فيها بنسبة ضئيلة جداً" - تحقيقات وتنبيهات في معجم لسان العرب ص ٤ - ٥

    وفي السنوات الأخيرة أصدرت دار المعارف بمصر طبعة ثالثة من اللسان بعد أن غيرت ترتيبه من نظام التقفية (الباب والفصل ) إلى الترتيب على الحرف الأول والثاني والثالث ، كما رتب الزمخشري معجمه "أساس البلاغة "، والفيومي معجمه " المصباح " ، وإن كان هذا الترتيب أقدم من الزمخشري والفيومي ، وتفصيل ذلك في
    غير هذا المكان .

    ○ عمل غير صالح!

    وهذا الذي أقدمت عليه دار المعارف ، في نظري عمل غير صالح ؟ لأن فيه جرأة على أعمال السابقين ، وقد قال أصحاب دار صادر في نشرتهم للسان : "وأشير علينا أن نغير ترتيب "اللسان "، ولكنا اَثرنا أن يبقى على حاله حفظاً للأئر من أن يُغَئر" وهذا هو الحق والصواب ، فان ابن منظور - ومن قبله الجوهري - قد رتب معجمه على اعتبار آخر الكلمة وأولها بعد تجريدها من الزوائد ، لأسباب اقتضت ذلك ، ومن
    أهم هذه الأسباب أن آخر الكلمة ئابت تصريفا واشتقاقاَ ، وإنما تطرأ الزيادة والتغيير على الأول والحشو (الوسط). وإعادة ترتيب المادة المعجمية على الأول والثاني ينقض ذلك فضلاً عما يحدثه من تعريض منهج المؤلف للاضطراب ، من حيث اختلال الِإحالات والارشادات تقديما وتأخيراً، فالمؤلف يقول وفق منهجه : تقدم ذلك ، أو : سياتي ، ولا يستقيم هذا على المنهج المقلوب ، فقد يكون المقدم آتياَ،
    والاتي مقدمأ.

    ويرتبط بتلك الدعوة دعوة اخرى خطيرة ، وهي ترتيب المادة اللغوية داخل المعجم على ظاهر اللفظ ، دون رعاية للتجريد والزيادة . وفي هذا إضاعة لعلم كبير من علومنا، هو علم الصرف والاشتقاق . ومما ينبغي التنبيه عليه هنا: أن بعض علمائنا الأقدمين فد ذكر في معجمه بعض الألفاظ على ظاهر لفظها لشيوع الكلمة بشكلها هذا ، لكنه كان ينبه في كل مرة إلى أن أصل الكلمة هو كذا .

    ومن هؤلاء العلماء ابن الأئير المتوفى سنة 606 هـ في معجمه : "النهاية في غريب الحديث والأثر"، وهو من المعاجم المتخصصة التي رتبت المادة على الأول والثاني والثالث ، فقد ذكر في باب الحاء والدال والهاء حديث : "فجعلتُه في قبر على حدة" ثم قال : "أصلها من الواو، فحذفت من أولها وعوض منها الهاء في آخرها، كعدة وزنة من الوعد والوزن ، وإنما ذكرناها هنا لأجل لفظها" .

    لكننا إذا رتبنا معاجمنا كلها على هذا المنهج ، ونبهنا في كل مرة على الاصل الاشتقاقي تضخمت تلك المعاجم جداَ فيما لا غناء فيه ولا طائل تحته.

    أما ما يقال عن التيسير والتسهيل فهو كلام من يظن أن أبناء العربية كلهم صاروا تلاميذ في مرحلة التعليم الثانوي أو ما هو دونه ، وأننا قد تحولنا جميعاً إلى طبقة من العوام لا تقوى على المناهج الموروثة ، ولا تطول يدها الكتب الكبار، واللهم لا! ولا ينبغي ان يكون التيسير والتسهيل سبيلاً إلى طمس المعالم وهدم الحدود .

    ومن وراء ذلك كله فإن السالك هذا السبيل لا يأمن العثرة بعد العثرة ، والزلة إثر الزلة ، وما أريد أن أطيل بذكر الأمثلة والشواهد، لكنني أشير هنا إلى عملين تراثيين سلكا هذا المسلك ، وما كان ينبغي لهما ذلك ، أولهما: كتاب "معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع " لأبي عبيد البكري الأندلسي المتوفى 487 هـ، وقد نشره الأستاذ مصطفى السقا رحمه الله سنة ١٩٤٥ م . والكتاب في أصل وضعه مرتب على الأبجدية المغربية التي تخالف الأبجدية المشرقية في ترتيب الحروف ، وحين نشره الأستاذ السقا أعاد ترتيبه على أبجديتنا المشرقية المعروفة ، وقد أدى هذا إلى اختلال في إحالات المؤلف تقديماً وتأخيراً. قد تربك القارىء الذي لم يقرأ مقدمة الأستاذ المحقق . ثم إنه رحمه اللّه قد تصرف في الكتاب تصرفاَ آخر أشار إليه في مقدمته.

    ومن العجيب حفاَ أن الناشر الأول للكتاب ، هو المستشرق الألماني " وستنفلد" حافط على ترتيب المؤلف للكتاب ، وذلك في نشرته التي صدرت بجوتنجن بألمانيا سنة 1876 م ، ثم أضاف إليه فهرسة على ترتيب أهل المشرق للحروف ، فأحسن كل الِإحسان .

    والمثال الثاني : كتاب "الاستيعاب في معرفة الأصحاب " - الصحابة رضي الله عنهم - لابن عبد البر القرطبي المتوفى 463 هـ. وقد رتب كتابه هذا أيضاً على ترتيب الحروف عند المغاربة ، فجاء ناشره الأستاذ علي محمد البجاوي رحمه اللّه، وقلب هذا الترتيب ورده إلى الترتيب المشرفي ، وقد أدى ذلك إلى سقوط بعض التراجم التي استدركها الناشر في آخر طبعته.

    فالحق والصواب أن تترك الكتب كما وضعها مؤلفوها ، ثم يلجأ إلى الفهارس والكشافات تيسيراً وتسهيلاَ، كما فعل "وستنفلد" في نشرته لكتاب البكري ، وكما صنع شيخنا عبد السلام هارون رحمه اللّه في فهارس " تهذيب اللغة " للأزهري ، ومن الطريف هنا أن شيخي محمود محمد شاكر حفظه اللّه لا يزال حريصاَ على ترتيب مواد
    اللغة على طريقة الباب والفصل ( أصل الاشتقاق ).

    إنَّ البرّ بتراث الآباء والأجداد ، واحترام التاريخ ، يقتضينا أن نأخذ بأيدي أبنائنا إلى ذلك الموروث ، نخوض بهم لججه ، ونسلك معهم دروبه ، ونفتج لهم مقفله، وهكذا تتواصل أجيال المعرفة ، فيحرص اللاحق على إرث السابق ، ويصونه كما يصون كرام الأبناء ودائع الآباء. أما إذا لجأنا إلى إعادة الترتيب والاختصار وما أشبههما فإننا نباعد بينهم وبين تاريخهم ، ونتركهم كالذي لا يعرف من النهر الكبير
    إلا ما يأتيه به الجدول الصغير.

    [ مقالات محمود محمد الطناحي ( ١ / ١٧٧- ١٨٦)
الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 1 زوار)
يعمل...
X