اقتضت حكمة الله تعالى أن يمرَّ خلقُ الإنسان بعدد من الأطوار والمراحل قبل خروجه من بطن أمه إلى هذه الحياة، وقد جاءت الإشارة إلى هذه الأطوار في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، من ذلك قوله تعالى في سورة الحج:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾.
ففي هذه الآية بيان للمراحل الثلاث التي يمر بها الجنين، وهي طور النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، وقد وصف الله تعالى المضغة بأنها مخلقة وغير مخلقة، والمراد بغير المخلقة عند جماعة من أهل العلم: السِّقط.
قال الإمام ابن جرير (رحمه الله) في تفسير هذه الآية: «اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ﴿مخلَّقة وغير مخلَّقة﴾، فقال بعضهم: هي من صفة النطفة، قال: ومعنى ذلك: فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة مخلَّقة وغير مخلقة قالوا: فأما المخلقة فما كان خلقا سَوِيًّا وأما غير مخلقة، فما دفعته الأرحام، من النطف، وألقته قبل أن يكون خلقا...
وقال آخرون: معنى ذلك: تامة وغير تامة...
وقال آخرون: معنى ذلك المضغة مصوَّرة إنسانا وغير مصوَّرة، فإذا صورت فهي مخلقة وإذا لم تصوَّر فهي غير مخلقة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: المخلقة المصورة خلقًا تامًا، وغير مخلقة: السِّقط قبل تمام خلقه، لأن المخلقة وغير المخلقة من نعت المضغة والنطفة بعد مصيرها مضغة، لم يبق لها حتى تصير خلقا سويا إلا التصوير، وذلك هو المراد بقوله ﴿مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ خلقا سويا، وغير مخلقة بأن تلقيه الأم مضغة ولا تصوّر ولا ينفخ فيها الروح»[ جامع البيان (18/567)].
وبوَّب البخاري في كتاب الحيض من «صحيحه» باب "مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ"
ثم قال: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا يَقُولُ يَا رَبِّ نُطْفَةٌ يَا رَبِّ عَلَقَةٌ يَا رَبِّ مُضْغَةٌ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهُ قَالَ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ فَمَا الرِّزْقُ وَالْأَجَلُ فَيُكْتَبُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ».
قال الحافظ ابن حجر:« قوله باب «مخلقة وغير مخلقة» رويناه بالإضافة أي: باب تفسير قوله تعالى: «مخلقة وغير مخلقة...ومناسبة الحديث للترجمة من جهة أن المذكور مفسر للآية.
وأوضح منه سياقًا ما رواه الطبري من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود قال: « إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكا فقال: يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال غير مخلقة مجها الرحم دمًا، وإن قال مخلقة، قال: يا رب فما صفة هذه النطفة؟ » فذكر الحديث وإسناده صحيح وهو موقوف لفظا مرفوع حكما.
وحكى الطبري لأهل التفسير في ذلك أقوالا وقال: الصواب قول من قال: المخلقة المصورة خلقًا تامًا وغير المخلقة السقط قبل تمام خلقه، وهو قول مجاهد والشعبي و غيرهما »[فتح الباري (2/210)] .
و يترتب على السقط عدد من الأحكام التي ينبغي على المسلم معرفتها وتحصيل الفقه الصحيح فيها، لاسيما وأنها مسألة قد عمَّت بها البلوى، مع ما نراه من جهل كثير من المسلمين بأحكامها أو بعضها.
ولذا رأيت أن أجلي بعض ما خفي من هذه الأحكام في هذا المقال مقتصرًا على الأهم فالمهم من ذلك، عسى أن يجد فيه المسترشد بغيته، و المستشكل حاجته، و قد جعلته في فصلين:
الأول: أحكام تتعلق بالسِّقط نفسه
الثاني: أحكام تتعلق بأمه