القواعد السلفية من الفتوى الحموية

المؤلف عماد معُّوش

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، وبعد:

فهذه مجموعة من القواعد السلفية نشرها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وضمَّنها رسالته الفذة النافعة (الفتوى الحموية الكبرى) ، وهي في الأصل جواب عن سؤال ورد للشيخ -رحمه الله- فيما يتعلق بصفة الاستواء خصوصا، وآيات الصفات عموما، فأسهب الشيخ على عادته في الجواب وقرر وجوب اتباع طريقة السلف في باب الاعتقاد عموما، وأقام على ذلك أنواعا من الأدلة العقلية والنقلية، وبيََّن فساد طريقة المتكلمين وشناعة قولهم: (إن منهج الخلف أعلم وأحكم) واللوازم الكفرية التي تلزم عن هذه المقالة الباطلة، ثم شرع في بيان منهج السلف في صفة الاستواء وأطال في ذلك بذكر الأدلة من الكتاب والسنة، وأكثر من النقولات عن السلف رحمهم الله، ومنهم المالكية كابن الماجشون وابن عبد البر وابن أبي زمنين، ففيه ردٌّ على من يزعم أن المالكية الأوائل كانوا من الأشاعرة، بل حتى تجرَّأ بعضهم على نسب إمام المذهب؛ مالك -رحمه الله- إلى الأشاعرة، وأكبر دليل على فساد هذا القول ما نقله عنه الشيخ -رحمه الله- في صفة الاستواء وقوله معروف عند العامة والخاصة.

وختم بذكر بعض شبهات القوم والرد عليها.

ولا أدََّعي استقصاء جميع ما بثَّه شيخ الإسلام من القواعد والأصول التي يقوم عليها المنهج السلفي، ولكن أذكر ما وقفت عليه، والله وراء القصد وهو ولي التوفيق.

ثم إني قسمت البحث إلى ثلاثة فصول وخاتمة؛ فصل في ذكر قواعد عامة في باب الاعتقاد، وثان في ذكر قواعد خاصة بباب الأسماء والصفات، وثالث في ذكر قواعد خاصة بصفتي العلو والاستواء، وخاتمة في ذكر بعض الفوائد النافعة المتعلقة بالموضوع.

الفصل الأول في ذكر قواعد عامة في باب الاعتقاد

القاعدة الأولى: وجوب الإيمان بما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم
القاعدة الثانية: وجوب فهم نصوص الكتاب والسنة على وفق فهم سلف الأمة
القاعدة الثالثة: وجوب تحكيم نصوص الكتاب والسنة في باب الاعتقاد والاكتفاء بهما
القاعدة الرابعة: وجوب إجراء نصوص الكتاب والسنة على ظاهرها وعدم التطرق لها بتأويل أو تكييف
القاعدة الخامسة: وجوب إثبات ألفاظ الكتاب والسنة وما دلت عليه من المعاني
القاعدة السادسة: كل ما يكون بعد الموت لا يعلم حقيقته إلا الله عز وجل فليس من الدنيا في الآخرة إلا الأسماء
القاعدة السابعة: وجوب تقديم نصوص الكتاب والسنة على العقل، والعقل آلة لفهم النصوص وليس دليلا مستقلا
القاعدة الثامنة: العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح
القاعدة التاسعة: طريقة السلف أعلم وأسلم وأحكم من طريقة الخلف
القاعدة العاشرة: وجوب الجمع بين النصوص الواردة في المسألة الواحدة ورد المتشابه إلى المحكم
القاعدة الحادية عشر: وجوب فهم نصوص الكتاب والسنة بمقتضى لغة العرب بمختلف دلالاتها
القاعدة الثانية عشر: اجتناب المعاني المجملة المحتملة لمعنيين أحدهما حق والآخر باطل
القاعدة الثالثة عشرة: التوقف في الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة وإن كان معناها موافقا للحق
القاعدة الرابعة عشر: تحريم الاشتغال بعلم الكلام، إذ سنده إلى اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والفلاسفة الضالين
القاعدة الخامسة عشر: جواز النقل عن المخالف استئناسا إن كان قوله موافقا للحق
القاعدة السادسة عشر: عدم لزوم أهل السنة ما يلزمهم به المبتدعة من اللوازم الباطلة بناء على مقالاتهم الفاسدة إذ لازم الباطل باطل

الفصل الثاني في ذكر قواعد خاصة بباب الأسماء والصفات

القاعدة الأولى: صفات الله عزوجل توقيفية لا يُتجاوز فيها القرآن والحديث
القاعدة الثانية: لا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه أو بما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم أو بما وصفه به السلف
القاعدة الثالثة: وجوب اجتناب المحاذير الأربعة التي هي التحريف والتعطيل والتمثيل والتكييف
القاعدة الرابعة: أن الله تعالى متفرد في ذاته وأسمائه وأوصافه ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾
القاعدة الخامسة: الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات
القاعدة السادسة: أن الله عز وجل مستحق لكل صفة كمال ومنزه عن كل صفة نقص وعيب
القاعدة السابعة: صفات الله تعالى أبدية أزلية ومتجددة باعتبار تعلقها بمشيئته جل وعلا وباعتبار تجدد متعلقاتها
القاعدة الثامنة: مقالة التعطيل تستلزم مقالة التمثيل ومقالة التمثيل تستلزم مقالة التعطيل
القاعدة التاسعة: لا يلزم من الإثبات تمثيل ولا تكييف ولا تجسيم
القاعدة العاشرة: لا يجوز إثبات الصفات العقلية إلا بعد ورود النص السمعي
القاعدة الحادية عشر: حقيقة كيفية صفات الله تعالى من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله

الفصل الثالث في ذكر قواعد متعلقة بصفتي العلو والاستواء

القاعدة الأولى: الاستواء على العرش صفة فعلية لتعلقها بمشيئة الله، والعلو صفة ذاتية لتعلقها بذات الله عز وجل
القاعدة الثانية: الاستواء صفة سمعية خبرية لتوقفها على النقل والعلو صفة عقلية لدلالة العقل عليها
القاعدة الثالثة: الاستواء خاص بالعرش والعلو شامل لجميع المخلوقات فالاستواء علو خاص
القاعدة الرابعة: لا يجوز حمل الاستواء على الاستيلاء لأن الله مستول على جميع الملكوت فلا مزية لذكر العرش حينئذ
القاعدة الخامسة: لا يلزم من إثبات الاستواء كون المستوي جسما ولا في جهة ولا مفتقرا إلى المستوى عليه
القاعدة السادسة: الاستواء على العرش ثابت بالكتاب والسنة وإجماع السلف بل وبإجماع علماء الأمة باختلاف مذاهبهم الفقهية
القاعدة السابعة: الاستواء والعلو لا ينافيان المعية الخاصة والعامة
القاعدة الثامنة: من أنكر صفة الاستواء فقد كفر ومن أقر بها وأنكر صفة العلو فقد كفر

خاتمة في ذكر بعض الفوائد المتعلقة بالموضوع

الفائدة الأولى: قال العلَّامة أبو عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس -حفظه الله ومتعنا الله بعلمه-: (فالذي عليه أهلُ التحقيقِ أنّ لازمَ المذهبِ إن صرَّح به صاحبُهُ، أو أشار إليه، أو التزمه، أو عُلم من حاله أنّه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره؛ فهو مذهبٌ له) ثم قال: (أمّا إذا كان لازمُ قولِه الذي لم يصرّح به، أو لم يُشِرْ إليه، ولم يلتزمه، أو سكت عنه، ولم يذكره بالتزام ولا منعٍ، أو صرّح بمنع التلازم بينه وبين قوله. فالصحيح أنّ نسبة القول إليه تقويلٌ له ما لم يقل، ولا يُلزَم بما لم يَلْتَزِمه، ولا يؤاخذ به، إذ «لاَ يُنْسَبُ لِسَاكِتٍ قَوْلُ قَائِلٍ»؛ لأنّه قد يصدر منه ما يلزمه، وهو ذاهل عن فساد اللاّزم، ولو كان قريبًا، لقصور علم المخلوق وعدم عصمته).

ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة -رحمه الله-: (ولو كان لازم المذهب مذهبًا للزم تكفيرُ كلِّ من قال عن الاستواء وغيرِه من الصفات إنّه مجازٌ ليس بحقيقة، فإنّ لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه أو صفاته حقيقة).

فعلى هذا التفصيل لا يشكل عليك ذكر شيخ الإسلام في الفتوى مجموعا من اللوازم الكفرية التي تلزم عن مقالات المتكلمين والفلاسفة، فإنما ذكرها لبيان بطلان مقالاتهم، إذ لازم الباطل باطل، فمن الطرق التي يتوصل بها إلى إبطال حجة الخصم إثبات بطلان لازمها، حيث يستدل بصحة اللازم على صحة الملزوم، وبفساد اللازم على فساد الملزوم ولم يسقها رحمه الله على أنها مذهبهم، إلا ما كان من قبيل القسم الأول من التفصيل السابق، وليُعلم أيضا أن أكثر ما ذكره الشيخ -رحمه الله- قد صرح به أصحابه أو التزموه، والله أعلم.

الفائدة الثانية: سبب اعتقاد المتكلمين أن مذهب السلف أسلم وأن مذهب الخلف أعلم وأحكم ظنهم أن طريقة السلف هي التفويض، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات، وفي نفس الوقت لابد لتلك النصوص التي أنكروها من معنى فبقوا مترددين بين الإيمان باللفظ ثم إما تفويض المعنى -وهي التي يسمونها طريقة السلف- وإما صرفه إلى معنى آخر بنوع تكلف -وهي التي يسمونها طريقة الخلف-، فصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل والكفر بالسمع.
ولم يهتدوا إلى وجود طريقة ثالثة قائمة على الإيمان باللفظ والمعنى معا وتفويض علم كيفيته إلى الله وهي طريقة السلف الحقة وهي الأسلم والأعلم والأحكم.

وفيه أن الناظر في المسائل الشرعية لا ينبغي أن يرجح فيها قولا من الأقوال إلا بعد أن يحيط بما فيها من الخلاف، فإنه قد يرجح ما يراه راجحا والواقع أن القول الصحيح فيها لم يطلع عليه بعد.

الفائدة الثالثة: جاء في كثير من كلام السلف رحمهم الله (أمروها كما جاءت بلا كيف) فقولهم: (بلا كيف) أي من غير تطرق لكيفيتها لأن هذا مما تفرد الله تعالى بعلمه، وليس مرادهم نفي الكيفية إذ صفات الله عزوجل لها كيف غير أن ذلك الكيف مما استأثر به الله عز وجل في علم الغيب عنده.
ففيه دليل على أن مذهب السلف هو إثبات معاني الصفات إذ من لا يثبت المعنى لا يحتاج أصلا لأن ينفي الكيف إذ لا يقال: معناها مجهول من غير معرفة كيفيتها.

وفيه رد على المؤولة إذ قولهم (أمروها كما جاءت) يقتضي إبقاء دلالة لفظها على ما هي عليه معنًى وعدم صرفها لمعنى آخر لا يحتمله اللفظ

الفائدة الرابعة: جاء في كثير من الآيات الأمر بتدبر كتاب الله تعالى نحو قوله تعالى: ﴿أفلا يتدبرون القران أم على قلوب أقفالها) وقوله: ﴿أفلم يدبروا القول) وقوله: ﴿كتاب أنزل إليك ليدبروا آياته) ففيه أن الله تعالى خاطب الناس بما يفهمون إذ كيف يأمر بتدبر ما لا يفهم !
وبالتالي يعلم خطأ من جرد نصوص الصفات من المعاني وجعلها مجرد ألفاظ تتلى وخطأ من نسب ذلك إلى السلف رحمهم الله.

الفائدة الخامسة: قال الله تعالى: ﴿وهو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أن الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب) ورد في هذه الآية الكريمة وقفان عن السلف رحمهم الله تعالى الأول: (وما يعلم تأويله إلا الله) والثاني: ﴿وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) فعلى الأول المراد بالتأويل ما يؤول إليه حقيقة الأمر فحقيقة ما تؤول إليه صفات الله عز وجل وما يكون بعد الموت وغير ذلك من أمور الغيب هو مما لا يعلمه إلا الله وعلى الثاني فإن المراد بالتأويل التفسير ولا شك أن الراسخون في العلم يعلمون تفسير كلام الله وتفسير كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم

وأختم بقول الإمام مالك رحمه الله تعالى: (أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء)

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصبحه وسلم