دمعة على أخلاقنا

المؤلف إبراهيم بويران

 




دمعة على أخلاقنا

 


 إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: 

 

 


فإنَّ الواقع الأخلاقي الذي عليه بعضُ المنتسبين لدعوة أهل السنة ليبعث على القلق، كيف لا؛ و قد صار منفذًا لأعداء هذه الدعوة يتسلَّلون منه للنَّيل منها، وثغرةً منها يُنفِذون سهامهم إلى نحرها.
إنَّها الأخلاق و ما أدراك ما الأخلاق! إنَّها الذَّريعة العظمى، والسِّلاح الفتَّاك الذي بات يرمي به كل من لم يتقن الرَّمي من أهل الأهواء والبدع ضدَّ السلفيين.

 
فكم أوتيت الدَّعوة السلفية من جهة أخلاق بعض أفرادها، و كم جنت ولا تزال تجني هذه الدَّعوة من الويلات وكم عصفت بها من أزمات، بسبب ما يصدر من بعض المحسوبين عليها، المعدودين من أهلها، من تسرُّعاتٍ طائشة، واندفاعاتٍ حماسية، وتعجُّلات غير منضبطة، وأخلاق سيِّئة، ما يزيد ضرره في كثيرٍ من الأحيان والأماكن، على الضَّرر الذي ينالها من قبل أعدائها وخصومها.


قال العلامة المحدث مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله فيما نقَله عنه جماعة من طلابه:« إنَّ دعوتنا بفضل الله جاوزت القنطرة، وقد يئِس منها أعداؤها لكن الخوف على هذه الدعوة من أهلها »، وكان يقول رحمه الله:« والله لا نخاف على دعوتنا إلَّا من أنفسنا » انتهى.


صدق الشيخ رحمه الله! فإنَّ الضَّرر الحقيقيَّ على الدَّعوة لا يلحقها من جهة خصومها وأعدائها الخارجِّيِّين، بقدر ما ينالها من بعض المنتسبين إليها، الذين يخدمون أعداءها بغير قصد بتصرفاتهم وأخلاقهم التي تُحسب على الدَّعوة.


فعلينا أن نكون صريحين مع أنفسنا، وأن نتحلَّى بالجرأة والشجاعة اللازمة لمداواة أمراضنا وعلاج أدوائنا.


إنَّ الحقيقة المرَّة التي لا مناص لنا من الاعتراف بها، هي بعدنا عن أخلاق السلف!، يدلُّ على ذلك كثرة الخلافات والنِّزاعات والمهاترات بين أبناء هذه الدَّعوة، وانتشار الهجر والقطيعة والعداوة والبغضاء والكراهية في أوساط أهلها، مع قلة الناصحين، والمصلحين لذات البين، الأمر الذي أدَّى إلى شماتة الأعداء بنا وبدعوتنا.


إنَّ الخُلق الحسن الذي استهان به، وفرَّط فيه كثير من المنتسبين لدعوة الحقِّ والسنة فضلا عن غيرهم، ليُعتبر من مهمات طريقة أهل السنة، ولعظم شأنه؛ نجد علماءنا وأئمتنا يوصون به حتى في كتب العقائد، ويحثُّون على التَّحلِّي به، والجدِّ والاجتهاد في الدعوة إليه ونشره في الناس.


* قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في « العقيدة الواسطية» بعد سرده لعددٍ من أصول أهل السنة والجماعة:« ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة.. ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: « أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا» ، ويندبون إلى أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل ، والرفق بالمملوك ، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق – بحق أو بغير حق – ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفسافها »انتهى.


فالله ألله معاشر أهل السنة في مراقبة الله في أخلاقكم، والسعي في لزوم هدي أسلافكم، وأخلاق علمائكم، فإن مسألة الأخلاق ليست من الأمور الثانوية في منهجكم، بل هي من أولوِّيات طريقتكم، ومن صميم منهجهم.


قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله :« ليتَّق الرَّجل دناءة الأخلاقِ كما يتَّقي الحرام فإنَّ الكرم دين » [مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا (12) ].


وقال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله:« الأخلاق العالية من الصِّدق والبرِّ والإحسان والتقوى والصَّبر والحلم، والسماحة في الأخلاق وفي البيع والشراء وفي كلِّ شأنٍ من الشئون، هذه أمور عظيمةٌ جدًّا لها آثارٌ بعيدة المدى في حياة المسلمين فلا نتساهل فيها، ولنلتزمها كما نلتزم سائر ديننا، وكثيرٌ من النَّاس يتهاون في شأن الأخلاق والعياذ بالله »[اللباب من مجموع نصائح الشيخ ربيع للشباب (ص288) ].


ثمَّ اعلموا معاشر أهل السنة أن من أدلِّ الدَّلائل على رسوخ شجرة الإيمان في قلوبكم، وعقائد الإسلام في صدوركم، ما تثمره كلَّ حين بإذن ربها من الأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، والآداب الزَّاكية، فإن لم يُر أثرٌ لهذه الثِّمار فهو دليل على سوء منبت الشَّجرة، وعدم ثبوت ساقها في القلب، و عري صاحبها عن العلم.


قال الإمام ابن القيم رحمه الله و غفر له في كتابه العظيم [ إعلام الموقعين (1/201) ]: « إنَّ الشجرة لا بدَّ لها من عروقٍ وساقٍ وفروعٍ ووَرقٍ وثمَر، فكذلك شجرة الإيمان والإسلام..، فعروقها العلم والمعرفة واليقين، وساقها الإخلاص، وفروعها الأعمال، وثمرتها ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة والصفات الممدوحة والأخلاق الزكية والسمت الصالح والهدى والدَّل المرضي، فيُستدلُّ على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور، فإذا كان العلم صحيحًا مطابقًا لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به، والاعتقاد مطابقًا لما أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله، والإخلاص قائمٌ في القلب، والأعمال موافقة للأمر، والهديُ والدَّلُّ والسَّمتُ مشابهٌ لهذه الأصول مناسب لها، عُلِم أن شجرة الإيمان في القلب أصلها ثابتٌ وفرعها في السَّماء، وإذا كان الأمر بالعكس عُلِم أنَّ القائم بالقلب إنَّما هو الشَّجرةُ الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار»انتهى.


فهذه هي ثمار الشَّجرتين، و قديمًا قيل: من ثمارهم تعرفونهم.


معشر السَّلفيِّين! رُبَّ سلفيٍّ بأخلاقه الحسنة، وآدابه الرفيعة، يُؤثِّر في الناس بسمته وحسن معاملته، فيُدخِل العشرات من الناس في حظيرة هذا المنهج، ويُحبِّبهم إليه، ويُرغٍّبهم فيه، فيكون قدوة في مجتمعه ونموذجًا صالحًا يُحتذى به، فما أحوج الناس إلى القدوة الصالحة والنموذج العملي الذي يشرح لهم هذه الدَّعوة عمليًا في واقعهم المُعاش، فإنَّ مثل هذا قد يُحدِث في الناس من التأثُّر بهذه الدَّعوة ما قد لا يُحدثه الدَّاعي بدعوته، فإنَّ دين الإسلام ما انتشر قديمًا في بعض بلاد الكفار والأعاجم، إلا بواسطة تُجارٍ مسلمين صالحين مطبقين للإسلام في بيعهم وشرائهم، وسائر معاملاتهم، من صدقٍ، ووفاءٍ بالوعد، وبعدٍ عن الغشِّ والكذب والخداع وغير ذلك، فاستحسن الناس منهم هذه الخلال، وعرفوا أنه ما حملهم عليها إلا تعاليم دينهم، فأُعجبوا بالإسلام و دخلوا فيه طواعيةً بصدورٍ منشرحةٍ، وقلوبٍ مطمئنَّة، فكان هؤلاء التُّجَّار الأفاضل سفراء للإسلام، ودعاة إليه لا بعلمهم ودعوتهم، ولكن بأخلاقهم، ومعاملاتهم.


قال العلامة المجاهد ربيع المدخلي حفظه الله:« إنَّ التَّحلِّي بالأخلاق الإسلامية العالية، من الصِّدق والأمانةٍ والتَّواضع والحكمة في الدَّعوة إلى الله تبارك وتعالى، له آثارٌ بعيدةٌ وعميقةٌ في انتشار الإسلام في أوساط الناس.


ولا تظن أنَّ الإسلام انتشر بالسَّيف فقط كما يتصوَّر بعض الناس، وإنَّما انتشر بهذه الأخلاق التي كان يتحلَّى بها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين ربَّاهم أرقى تربية على أرقى وأعلى الأخلاق.. التي كانت أكبر دافعٍ للناس وجاذبٍ للناس إلى تقبُّل الإسلام »[اللباب (11/12)].


و يتأكَّد أمر الأخلاق بالنسبة لنا معشر أهل السنَّة المنتسبين لهذه الدَّعوة السلفية؛ سيما إذا عرفنا أن الناس قد وضعونا تحت المجهر كما يُقال، وأنَّ نظرة كثيرٍ منهم إلى هذه الدَّعوة وفكرتهم عنها سيِّئةٌ للغاية، بسبب وشايات الخصوم والأعداء التي رسمت في أذهانهم صورةً مقيتةً عن الدَّعوة وأهلها، بما ينبزونهم به من التَّشدُّد والغلو والجفاء والفحش وسوء الخلق، ونحو ذلك من ألقاب السُّوء، تشويهًا لهم وتنفيرًا عنهم وعن دعوتهم، مع العلم بأنَّ أكثر الناس إلا من رحم الله ينظرون إلى هذه الدَّعوة من خلال أفرادها الملتزمين بها، لا إلى أصولها ومصادرها، أو إليها كمنهج شامل مستمد من الكتاب والسنة وهدي السلف.


فإمَّا أن نُعطي لخصوم هذه الدَّعوة ولمن بنى نظرته إلى هذه الدَّعوة من عوام النَّاس انطلاقًا من اتهاماتهم الكاذبة؛ المبرِّرات الواقعية العملية بسوء أخلاقنا، وقبيح تصرفاتنا، ونؤكِّد لهم بذلك نظرتهم السِّلبية لهذه الدعوة وأهلها.
وإمَّا أن نُكذِّب اتهامات الخصوم، ونُبطِلها عمليًّا بواقعنا الأخلاقي والمعاملاتي، والتزامنا بما يمليه عليه ديننا، ودعوتنا من الأخلاق الفاضلة، والمعاملات النبيلة، والآداب الرفيعة السامية، فبذلك نكون قد مثَّلنا هذه الدَّعوة أحسن تمثيل، وساهمنا في تحسين نظرة الناس إليها، فلا يبقى حينها لما يُشاع عن دعوتنا من الافتراءات والأكاذيب، محلًا من الإعراب! ولا سندًا تستند إليه، وبذلك نقدِّم أقلَّ الخدمات المطلوبة منَّا تجاه هذه الدَّعوة، بكفِّ شرِّنا عنها حتى لا تُؤت الدَّعوة من قِبَلِنا، فلا يجد حينها من يسمع بتلك الوشايات عن هذه الدَّعوة ما يدلُّ على صدق دعواه في واقعنا، بل يجد بإذن الله ما يُكذِّبها و يُفنِّدها.


وعندها نقول بملئ أفواهنا:

 
أَيَا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما … قد حدثوك فما راءٍ كمن سمعا

 

ونقول :
 

خذ ما نظرت ودع شيئًا سمعتَ به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زُحل
 

معشر أهل السنة! إنَّ الدِّين لا يقوم ولا يكمل إلا بحسن الخلق، قال صلى الله عليه وسلم: « أكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا »[ « صحيح الجامع » (1241)].


وبحسن الخلق يفضل المسلم على غيره ويكون بذلك من خيار عباد الله المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقًا »[أخرجه البخاري (5688)، و مسلم(2321) ].


وبالخلق الحسن ينال المسلم درجة الصَّائم القائم، وبه يثقل ميزان العبد يوم القيامة، بل ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وبه ينال المسلم القرب والزُّلفى من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة في جنات عدن ، وعدِّد من فضائل حسن الخلق الدنيوية والأخروية، المبشَّر بها في الأحاديث النبوية.


و هذا إن دلَّ على شيء إنَّما يدلُّ على عظيم منزلة الأخلاق في الإسلام، فهي دليل الإيمان، وعلامة التقوى، وعنوان الصلاح، وبرهان صدق التَّديُّن.


ولذا؛ نجد في النصوص الشرعية وصف الفاحشِ صاحب الخلقِ السيِّء بأنَّه شرُّ الخلق! أو من أشرِّهم! وذلك لتجَّرُّده عما يُجمِّله، و فقده لما يزينه، وخلوه مما يكمله.
فقد أخرج البخاري (6054)، و مسلم (2591) واللفظ له، من حديث أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« يَا عَائِشَةُ؛ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، « مَنْ وَدَعَهُ »، « أَوْ تَرَكَهُ » النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ ».


* قال العلامة الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله كما في “شرح سنن أبي داود ” « (باب: إن شرَّ الناس منزلةً عند الله من ودعه الناس اتقاء فحشه)، وذلك كإنسان يكون عنده بذاءةٌ في اللِّسان وعنده تطاول على الناس، فالناس يحرصون على أن يتخلصوا منه، ولا يدخلون معه في مصادمات؛ لأنه يؤذيهم..» انتهى.


  في الحديث دليلٌ على أنَّ الفُحش وسوء الخلق من أسباب ترك الرجل، ونفور الناس عنه، وأن مثل هذه الطباع الدنيئة مُسوِّغٌ شرعيٌّ لترك من كان هذا حاله.


كيف لا!؟ و هذا ربنا العظيم يقول مخاطبًا نبيَّه الكريم عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم:{ فبما رحمةٍ منَ الله لِنتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلبِ لانفَضُّوا مِن حَولِك }[آل عمران:159].


قال العلامة السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية:« { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}.
أي: برحمة الله لك ولأصحابك، منَّ الله عليك أن ألنت لهم جانبك، وخفضت لهم جناحك، وترقَّقت عليهم، وحسَّنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك وأحبُّوك، وامتثلوا أمرك.
{ ولو كنت فظا } أي: سيِّئ الخلق { غليظ القلب } أي: قاسيه، { لانفضوا من حولك } لأن هذا يُنفِّرهم ويبغِّضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ.


فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين، تجذب الناس إلى دين الله، وترغِّبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفِّر الناس عن الدين، وتبغِّضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول، فكيف بغيره؟!» انتهى.


  وقال المفسر طاهر بن عاشور:« أي: لو كنت قاسياً لما عاشروك »[ التحرير والتنوير (28/366) ] ».


فالفحش وسوء الخلق والغلظة والفضاضة من موجبات ترك الرجل والنفور من عشرته ومصاحبته، كما أنَّ هذه الخصال تعتبر من الأسباب القادحة فيمن تلبَّس بها عند العلماء!


فهذا علامة الجرح والتعديل ربيع السنة المدخلي يقول مفسِّرًا جرحه للحجوري و مُبيِّنًا لبعض أسباب تحذيره منه مخاطبًا بعض الحجاورة: « قولوا له: دع هذا الغُلو وهذا السُلوك السيِّئ، إن أثقل شيء في الميزان يوم القيامـة هو حُسن الخلق، إذًا أخبروه بأن يُعلِّم طلابه حُسن الخُلق وأن يكون ذا خُلق حسَن، لن يصل إلى مكان بدون ذلك »انتهى.


وقال عنه أيضًا: « الذي شهدناه الآن كذب، خِداع، غلو، والله، رأيتم غلو طلبته هناك، لا يوجد عندهم أدب على الإطلاق »انتهى.


فممَّا جرح به العلامة المدخلي الحجوريَّ: سوء الخلق، والسُّلوك السَّيِّئ، وبيَّن بأنَّه لن يصل إلى شيء بفحشه وسوء أخلاقه، كما جرح طلبته المتعصِّبين له بمثل ذلك، وأنهم عراة من الأدب، والسمت الحسن، الذي عليه العلماء وطلبة العلم النُّجباء.
فدلَّ على أنَّ الفحش وسوء الخلق يضرُّ صاحبه، وقد يؤول به إلى الجرح والترك.


* وقال العلامة عبيد الجابري حفظه الله في أُولى ردودِه على الحجوري: « أمَّا الحجوري فَبَيَّنا غير مرة، وخلاصة الأمر أنه سفيه، نعم، والرجل كان سوقيًّا لم ينشأ في العلم ولهذا نفَسُه ليس نَفَس أهل العلم المحققين الورعين؛ بل منطق السفهاء؛ فهو سيئ المنطق بذيء اللسان »انتهى.
 

وقال أيضًا حفظه الله: « يحي الحجوري مبتلى بثلاثة أمور:
إحداها: وقوعه في عددٍ كبيرٍ وكثيرٍ من البدع..؛
الثاني: الوقاحة والفحش في القول؛ فهو سفيهٌ في هذا الباب ولا يصلح لأخذ العلم عنه أبداً؛ سفيهٌ شرسٌ سيء الخلق، .. »انتهى.

 

فعدَّ العلامة الجابري حفظه الله من موانع أخذ العلم عن الحجوري، ومن أسباب جرحه له فحشه وسوء خلقه و شراسته و غلظته.
 

وقال السخاوي في « فتح المغيث » (3/349):« الجرح والتعديل خطر.. فإن فيه مع حق الله و رسوله حق آدمي، وربما يناله إذا كان بالهوى ومجانبة الاستواء الضرر في الدنيا قبل الآخرة والمقت بين الناس والمنافرة، كما اتَّفق لأبي شامة فإنَّه كان مع كونه عالمًا راسخًا في العلم مقرئًا محدثًا نحويًا يكتب الخط المليح المتقن مع التواضع والانطراح والتصانيف العدَّة، كثير الوقيعة في العلماء والصُّلحاء وأكابر الناس والطعن عليهم والتَّنقُّص لهم وذكر مساويهم، وكونه عند نفسه عظيما فصار ساقطة من أعين كثير من الناس ممن علم منه ذلك، وتكلموا فيه »انتهى.

 * وجاء في بيان مشايخ السلفية في الجزائر الذي فسَّروا فيه جرحهم وبيَّنوا فيه أسباب تحذيرهم من المدعو عبد الحميد العربي، قولهم: «امتثالًا لواجب النصيحة الذي تمليه الديانة على أهل العلم وطلبته، رآى الموقعون أدناه وإخوانهم من الأئمة والدعاة أن يُحذِّروا منه ومن تصرفاته البعيدة عن المسلك التربوي الهادف، لاعتقادهم أنه ليس أهلًا لأخذ العلم عنه ولا الجلوس إليه للاستفادة منه، لما يقوم به من الموانع التي تحول دون تأهله لمثل هذا المنصب الشريف، وأخطرها اتصافه بالكذب..، واعتداده بنفسه، وزهوه بها..، إضافة إلى ما هو عليه من كثرة التشغيب والتهويش..، وقد وصل به الأمر إلى استعمال الفحش من القول والسَّيِّء من الكلام، الذي يترفع عن مثله عوام المسلمين فضلًا عن خواصهم..، وعليه يتبيَّن لمن كان سالكا منهج أهل الحديث في تعديل نقلة العلم وتجريحهم، أن هذا الرجل المتصف بمثل هذه الأوصاف المشينة لا يُمكن أن يرتقي إلى مصاف المعلِّمين والمربِّين »انتهى باختصار.

 

فالفحش والبذاءة وسوء الخلق عند مشايخنا من موجبات ترك الرَّجل والتحذير منه بعد نصحه، ومانعٌ من الموانع التي تحول دون تأهله لمنصب الدَّعوة، وسببٌ لعدم ترقي صاحبها إلى مصاف المعلِّمين والمربِّين، و هذا كلُّه كما قال مشايخنا الأفاضل:« يتبيَّن لمن كان سالكا منهج أهل الحديث في تعديل نقلة العلم وتجريحهم »، فهو إذًا من منهج السلف أهل السنة والحديث.


* يؤيِّد ما قاله مشايخنا؛ كتب الجرح والتعديل الخاصة بالرواة، فإنَّنا نجدها زاخرة بأعداد من الرواة تركهم الأئمة أو تكلموا فيهم بسبب فحشهم وسوء أخلاقهم .
* ففي « موسوعة الإمام أحمد في الجرح والتعديل »(4/75): قال عبد الله: قال أبي: وكان الأفطس يأتي أزهر السمان، فإذا حدث يكتب في الأرض كذب، كذب. قال: وكان خبيث اللسان ».
وقال عبد الله: سمعتُ أبي، وذكر عبد الله بن سلمة الأفطس، فقال: كان من أصحاب يحيى، وكان سيِّء الخلق، وتركنا حديثه، وتركه الناس »انتهى.


وفي « العلل للإمام أحمد »(برقم4555): « قال عبد الله بن أحمد: قال أبي: ورأيت بشر بن عمر، يعني الزهراني، وكان إنساناً غلقاً سيِّء الخلق، فلم يقدر أن يكتب عنه شيئًا».


وفي « تهذيب التهذيب »(1/510) في ترجمة تليد بن سليمان المحاربي أبو سليمان: قال يعقوب بن سفيان: « رافضي خبيث..، وقال صالح بن محمد كان أهل الحديث يسمونه:« بليدًا » يعني بالباء الموحدة، وكان سيِّء الخلق لا يحتج بحديثه ».


وقال الذهبي في «السير »(11/554) في ترجمة الحافظ أحمد بن بكار ابن أبي ميمونة:« امتنع من الأخذ عن يعلى بن الأشدق، لأنه سمعه يفحش في خطابه ».


وقال ابن سعد في « الطبقات »( 7 / 380):« سَعِيد بن سنان الشيباني من أنفسهم ، كان من أهل الكوفة، ولكنه سكن الرَّي بعد ذلك ، وكان يحج في كل سنة ، وكان سيئ الخلق ».


* فالفاحش صاحب الخلق السَّيِّئ مقدوح فيه عند العلماء، مذمومٌ عند المؤمنين، وكذلك هو بغيضٌ مبغوضٌ عند ربِّ العالمين!
فعَنْ أَبِي الدَّرداء رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ » [ “السلسلة الصحيحة”(876)].


قال القاري في « مرقاة المفاتيح »(14/388): « وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ، أي: لفحشه..، « البَذِيء » فعيل من البِذاء وهو ضد الحيِي، ذكره شارحٌ، وهو المناسب للمقام وفي الغَريبَيْنِ: « رجلٌ بذيءٌ، أي: فاحش سيِّئ الخلق ».
 

وفي المقرَّر أن كلَّ ما يكون مبغوضًا لله ليس له وزنٌ وقدر، كما أنَّ كلَّ ما يكون محبوبًا له يكون عنده عظيما.. .


وقال الطيبي: أوقع قوله: « وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ »، مقابلا لقوله: « إنَّ أثقل شيء يوضع في الميزان» دلالة على أنَّ أخفَّ ما يوضعُ في الميزان هو «سوء الخلق »، و إنَّ حُسنَ الخُلق أحب الأشياء عند الله، والخلق السيِّئُ أبغضها، وإنَّ الفُحش والبذاءة: أسوأ شيء في مساوئ الأخلاق »انتهى.

و لو تأملنا في حال أهل الفحش وسوء الخلق فإنَّنا لا نجدهم إلا متروكين عند الصالحين من عباد الله، منبوذين عند الخِيَرة من المؤمنين، مذمومين عند جيرانهم وأقوامهم وأهل بلدهم ومن عاشرهم، لا يكاد يألفهم أحد، إلا من كان على شاكلتهم، وانتهج نفس سبيلهم، فإنَّ الطيور على أشكالها تقع.


قال الذهبي في «السير»(6/99) في ترجمة سلمة بن دينار:« وروى يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازمٍ رحمه الله ( هو سلمة بن دينار ) قال: « السيئُ الخلق أشقى الناس به نفسُهُ التي بين جنبيه ، هي مِنه في بلاء ، ثم زوجتُهُ ، ثم ولدُهُ، حتى أنه ليدخل بيته، وإنهم لفي سرور، فيسمعون صوته ، فينفرون منه فرَقًا منه ».


فإذا كان هذا هو حال صاحب الخلق السَّيِّئ مع أقرب الناس إليه، فكيف بحاله مع غيرهم؟ لاشكَّ أنهم منه أشد نفورًا وفرارًا، فكيف لمثله أن يكون قدوة للناس محبِّبًا لهم منهج أهل السنة؟ بل لا يكون إلا منفِّرًا لهم عن الدِّين الحق.
فليتَّقِ الله امرؤٌ تلبَّس بالفُحش وأخلاق السُّوء، وليُراجع نفسَه، وليتأمَّل في هذه الزَّواجر التي تقرع الأسماع ، وتهزُّ الأفئدة، و تُرعش الأبدان، فإن لم تُحيِ هذه الرَّوادع نبضة الحياء في قلبه، ولم تحرِّك شعرة الرجولة من رأسه، فليُقلِّب بصره فيمن هذا طبعهم و خلقهم، كيف نفر النَّاس عنهم، وفرُّوا من مجالستهم، وزهِدوا في صحبتهم! فلعلَّه أن يتَّعظ بحالهم، ويراجع عندها حساباته فإنَّ السعيد من وُعِظ بغيره.
هذا وأنصح إخواني بسماع خطبةِ شيخنا لزهر الأخيرة حول موضوع الأخلاق فإنها نفيسة في بابها، ومفيدة لسامعها، تدل على دراية تامة منه حفظه الله بمواطن الخلل فينا، وبذله للوسع في علاجنا وإصلاحنا فجزاه الله خيرا و نفع به.

 

والله من وراء القصد، إنما أُريد النُّصحَ.. والإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.