لزوم التّشنيع على دعاة التّمييع (الجزء الثاني) / مراد قرازة

المؤلف مراد قرازة

 

بسم الله الرحمن الرّحيم

المبحث الثاني : أصل التّمييع وسنده الّذي انتقل به
 
 

لا شكّ أنّ المتتبّع لأحداث التّاريخ ، والنّاظر في كتب الملل والنّحل والمقالات ، لا يكاد يجد مثل هذا النّهج المنفتح على كلّ الجبهات ، المتقبّل لكلّ السّقطات والزّلاّت ، المعتذر لكلّ المخالفات، اللهمّ إلاّ ما كان من المرجئة الغلاة ، الّذين أخرجوا العمل من مسمّى الإيمان ، فخلص لهم أنّه لا يضرّ مع إيمان القلب معصية (1 ) أو أصحاب وحدة الوجود الّذين جعلوا الرّب عبدا والعبد ربّا ، فتساوى عندهم بذلك المشرك والموحّد وعابد الرّحمن بعابد الشّيطان(2 ) .

على العكس من ذلك فإنّ أصحاب كلّ فرقة وطريقة – كانوا ولازالوا – يبذلون غاية الوسع ومنتهى الجهد في نصر مذهبهم وتصحيح آرائهم وأفكارهم ، وتخطئة مخالفيهم والتّشنيع على عقائدهم ومناهجهم ، وبيان عوراتهم وفضح مغالطاتهم

ولعلّ أوّل من تبنّى فكرّ التجميع بلا تمحيص – على نطاق واسع – وأهمل العقائد والأصول في مقابلة الوحدة المزعومة ، والتكتّل المرجوّ ، هي فرقة الإخوان المسلمين ، “فلقد قام نظام الاخوان المسلمين على قاعدة ( كتل الناس؛ جمِّعهم على ما بينهم من خلافات عقدية أو سلوكية أو فقهية ثم ثقف ) : كتل ثم ثقف على هذا قامت دعوتهم طيلة هذه السنين الطويلة لكن الواقع يشهد ألا شيء هناك سوى التكتيل وليس هناك شيء يسمى بالتثقيف والدليل على ذلك أنه لايوجد بين الاخوان المسلمين على اختلاف بلادهم وأقاليمهم رابطة فكرية رابطة اعتقادية والواقع ايضا يشهد بهذا فالاخوان المسلمون فى مصر هم غير الاخوان المسلمين فى الاردن هم غيرهم فى سوريا بل هم فى سوريا يختلفون عن الاخوان فى الجنوب واخوان الشمال “(3).

وذلك لأنّ ” الغاية عندهم من الدعوة هي الوصول إلى الدولة هذا أمر ظاهر بيّن في منهج الإخوان بل في دعوتهم، الغاية من دعوتهم هو الوصول إلى الدولة ” ( 4) ، ولا يمكن الوصول إلى مثل هذه الغاية السّياسية إلاّ بتجميع النّاس وتكتيلهم ، بخلاف بقية المناهج التي بنيت بالأساس على مبدأ العقيدة ، ونصبت الولاء والبراء عليها.

وقاعدة الإخوان « نتعاون فيما اتّفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه » ، “من صياغة « محمد رشيد رضا » ، وقد سمَّاها بقاعدة «المنار الذهبية»، وقد شَهِدَ « رشيد رضا » أنه تلقى تلك القاعدة عن شيخيه: « الأفغانيّ » ، و« محمد عبده » ، وتلقتها بعد ذلك « الإخوان » ؛ فصارتْ لهم منهجًا ” (5) .


وأخذ هذه القاعدة عن الإخوان المسلمين « عدنان عرعور » وأعاد صياغتها وتلميعها ، حتى تنطلي على من لا يفهم حقيقتها فأصبحت «نبيّن ولا نضلّل» ،و «نصحّح ولا نجرّح»(6).


وجاء بعده « أبو الحسن المأربي » ، وأعاد صياغتها من جديد فعادت «نبني ولا نهدم الأشخاص »(7) ، فقاعدته «نُصَحِّحُ ولا نَهْدِم» إعادةُ صياغةٍ لتلك القاعدة ، وهي الأساسُ الذي بنى فوقه «المنهجَ الأفيح»!! “(8).



لينتهي بها المطاف عند « علي حسن الحلبي » كبير القوم ومقدّم طريقتهم، وصاحب الرّأي فيهم ، بهذه الصّيغة : « لا نجعل خلافنا في غيرنا سبباً للخلاف بيننا» (9) وغيرها من العبارات التي سيأتي ذكرها –بإذن الله-.

هذا هو – باختصار – أصل هذه المقالة الفاسدة ، والعقيدة الكاسدة ، مأخوذة من عند الرّوافض والماسونية ، ومزروعة في بلاد المسلمين على يد عميل الاستعمار وداعية الانحلال « جمال الدّين الأفغاني »(10 ) ، مرورا بداعية العقلانية والحداثة والتّنوير ، وباعث فكر الاعتزال « محمد عبده » وتلميذه « محمد رشيد رضا »( 11) ، قبل أن تستقرّ زمنا غير قليل في حياض « جماعة الإخوان المسلمين » ، ثمّ يتلقّفها منهم أدعياء السنّة و«حزب التّمييع »

إشكال وجوابه :

قد سبق أنّ جماعة « الإخوان المسلمين » تبنّت هذا المنهج الواسع لأغراض سياسية ، وذلك حتّى تجمّع أكبر عدد ممكن من النّاخبين ، أو المشاغبين الّذين تحتاج إلى جموعهم في سعيها إلى السّلطة فما هو سبب انتهاج « حزب التّمييع » لهذا النّهج ؟؟؟

والجواب الّذي تشمئزّ من ذكره النّفوس ، وتضيق لوقعه الصّدور : ” أنّ غالب أتباع هذا النّهج وأنصاره – بل رؤوسه وأقطابه – هم ممّن لفظتهم دعوة أهل السنّة ، وردّ عليهم علماؤها ، وبيّنوا عوارهم ، وكشفوا زيف أعمالهم ، وخطأ طرائقهم ، ففيهم الّذي رمي بإرجاء ، والّذي اتّهم بتكفير ، وفيهم الحزبيّ المستتر ، والحدّاديّ المشتهر ، وفيهم من طعن فيه بفسق ظاهر ، أو مروءة ساقطة … اجتمعوا كلّهم تحت هذا السّقف الواسع والمظلّة الوارفة ، لغاية واحدة : هي إسقاط هذه الدّعوة ، والتّشويش على دعاتها وعلمائها ، بغرض الانتقام للنّفس والانتصار لها فلا تكاد تجد لهؤلاء عملا غير الطّعن في أهل السنّة السّلفيين ، وازدرائهم ، والتّنقّص من شأنهم ، وتتبّع عوراتهم ، وتشهير زلاّتهم ، أو السّعي في تعظيم مخالفيهم ، ورفعهم فوق منازلهم ، وإلباسهم غير ثيابهم ، لكي يظهروهم للنّاس في صورة العلماء الرّبّانيين والدّعاة المصلحين ، أو في صورة المضطهد المظلوم ، الّذي طعن بغير حقّ وجرّح بغير وزر،كلّ ذلك حتى تخلو لهم ساحة الدّعوة ، فينفذ كلّ منهم رغبته ، ويظهر سريرته ، وينشر فكره وبدعته ” (12 ) ، ولعلّ في صنيعهم هذا تطبيقا لقاعدتهم الذّهبية « نتعاون فيما اتّفقنا فيه – أي حرب السنّة وأهلها – ، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه – من البدع والضّلالات والأهواء – » – والله المستعان –
ــــــــــــــــــــــــــــ


1- المرجئة الغلاة هم : أتباع جهم بن صفوان وبعض القدرية الذين قالوا أنّ الإيمان هو معرفة القلب فقط !! ، قال شارح الطّحاوية : ” وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسين الصالحي أحد رؤساء القدرية – إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب ! وهذا القول أظهر فسادا مما قبله ! فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين ، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ، ولم يؤمنوا بهما ، ولهذا قال موسى لفرعون : ” لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر” [الإسراء:102]، وقال تعالى : ” وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ” [ النمل : 14 ] . وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ، ولم يكونوا مؤمنين به ، بل كافرين به ، معادين له ، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمنا ، فإنه قال:


ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا


بل إبليس يكون عند الجهم مؤمنا كامل الإيمان ! فإنه لم يجهل ربه ، بل هو عارف به ، ” قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ” [ الحجر : 36 ] ، ” قال رب بما أغويتني ” [ الحجر : 39 ] ، ” قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين ” . والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى ، ولا أحد أجهل منه بربه ! فإنه جعله الوجود المطلق ، وسلب عنه جميع صفاته ، ولا جهل أكبر من هذا ، فيكون كافرا بشهادته على نفسه ! ” ( شرح الطّحاوية ص2/460 )


2- أصحاب وحدة الوجود الّذين جعلوا الوجود كلّه واحدا ، لا يتميّز فيه خالق عن مخلوق ، فالكلّ عبيد والكلّ آلهة ، ومنهم ابن عربي الصوفي الملحد الّذي يقول :

 

 

العبـد رب والــرب عبـد يـا ليـت شـــعري مــن المكــلف
إن قلــت عبد فـذاك رب أو قلــت رب أنـــى يكـــــــــلف


قال شيخ الإسلام : ” فلما صار عنده عين وجود الرب هو عين وجود العبد صار كل واحد عنده هو عين الآخر ، وإذا كان الرب لا تكليف عليه ، والرب هو العبد فالعبد أيضا لا تكليف عليه ” (انظر مختصر الفتاوى المصرية 246 )

 

 


3– من كلام العلاّمة الألباني في (شريط الفرق بين دعوة الإخوان والدّعوة السّلفية )


4- من كلام الشّيخ صالح آل الشيخ ( الموقع الرسمي للشيخ – أسئلة المنهج )
5- من كلام الشيخ محمّد سعيد رسلان في (محاضرة بعنوان نصحح ونهدم للشيح في الردّ على المأربي “


6- وقد بالغ في شرح هذه القاعدة ، والاستدلال لها ، وبيان فروعها في كتابه : ” منهج الاعتدال ” ( ص37 وما بعدها )


7- وقد أظهر أبو الحسن هذه القاعدة في سلسلة ” القول الأمين في صد العدوان المبين ش5 ” ثمّ شرحه وانتصر لها في مقال ” القولُ المُفحِم لِمن أنكرَ مقالة (نُصحِّحُ ولا نَهْدِمِ) “


8- : من كلام الشيخ محمّد سعيد رسلان في (محاضرة بعنوان نصحح ونهدم للشيح في الردّ على المأربي “


9- وقد أقرّ هذه القاعدة وانتصر لها في عديد كتبه ، من ذلك مقال ” الجرح والتعديل أصول وضوابط : القاعدة الرابعة ” ، وكتاب ” منهج السلف الصالح ص324 حاشية (1) “


10- قال الشيخ محمّد سعيد رسلان حفظه الله : ” يكفي أن تعلم أن جمال الدين الاسترابادي الرافضي الذي نُسب إلى الأفغان زورا وكذبا وإنما هو إيراني مُلحد كان ماسونيا جلدا وكان على رأس محفل الشرق الماسوني، وكان عظيم الرتبة فيه جدا وكان مجاهرا بالإلحاد في كثير من الحالات ” ( شريط حقيقة جمال الدّين الأفغاني و محمّد عبده للشيخ – حفظه الله – )


11- قال الشيخ مقبل بن هادي الوادعي – رحمه الله – ” وفي هذا الزمن شاع وذاع أن جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده المصري، ومحمد رشيد رضا، من المجددين وأنّهم علماء الفكر الحر، فقام غير واحد من المعاصرين ببيان ضلالهم وأنّهم مجدّدون للضلال وترهات الإعتزال فعلمت حقيقتهم ، وصدق الله إذ يقول: فأمّا الزّبد فيذهب جفاءً وأمّا ما ينفع النّاس فيمكث في الأرض فصارت معرفة ضلالهم كلمة إجماع بين أهل السنة، لكن محمد رشيد رضا لم يوفّ حقه واغترّ بعض الناس ببعض كلماته في الردود على بعض أهل البدع، وما يدري أن عنده من البدع والضلال ما يقاربهم، ولقد صدق مروان بن محمد الطاطري إذ يقول كما في ترجمته من “ترتيب المدارك” للقاضي عياض: ثلاثة لا يؤتمنون: الصوفي والقصاص والمبتدع يرد على المبتدعة ” ( مقدمة كتاب :ردود أهل العلم على الطاعنين في حديث السحر ص3 )


12- استفدت هذا الجواب بمعناه من فضيلة الشيخ العلاّمة « محمّد علي فركوس » – حفظه الله – في مجلسين مختلفين
.