[قبَّحَ اللهُ مَن يَنقُل البُهتان ويَمشي بالنَّميمة] قصةٌ.. فيها عبرة

المؤلف إبراهيم بويران

 

[قبَّحَ اللهُ مَن يَنقُل البُهتان ويَمشي بالنَّميمة]


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، و بعد: فبينما أنا أطالع في بعض كتب العلم استوقفتني حادثة مؤلمة وقعت بين الإمام ابن خزيمة وبعض كبار تلامذته، بسبب وشايةٍ كاذبةٍ من بعض النمامين.


الحادثة ذكرها الإمام الذهبي في كتابه “السير” (14/379/380) في ترجمة الإمام ابن خزيمة، قال: « قال الحاكم: حدثني أبو بكر محمد بن حمدون وجماعة من مشايخنا، إلا أنَّ ابن حمدون كان من أعرفهم بهذه الواقعة، قال: لما بلغ أبو بكر بن خزيمة من السن والرئاسة والتفرد بهما ما بلغ، كان له أصحابٌ صاروا في حياته أنجم الدنيا، مثل أبي علي محمد بن عبد الوهاب الثقفي، وهو أول من حمل علوم الشافعي ودقائق ابن سريج إلى خراسان، ومثل أبي بكر أحمد بن إسحاق يعني الصبغي خليفة ابن خزيمة في الفتوى، وأحسن الجماعة تصنيفا، وأحسنهم سياسة في مجالس السلاطين، وأبي بكر بن أبي عثمان، وهو آدبهم، وأكثرهم جمعا للعلوم، وأكثرهم رحلة، وشيخ المطوعة والمجاهدين، وأبي محمد يحيى بن منصور، وكان من أكابر البيوتات، وأعرفهم بمذهب ابن خزيمة وأصلحهم للقضاء.


قال: فلما ورد منصور بن يحيى الطوسي نيسابور، وكان يكثر الاختلاف إلى ابن خزيمة للسماع منه، وهو معتزلي، وعاين ما عاين من الأربعة الذين سمَّيناهم حسدهم، واجتمع مع أبي عبدالرحمن الواعظ القدري بباب معمر في أمورهم غير مرَّة فقالا: هذا إمام لا يسرع في الكلام، وينهى أصحابه عن التنازع في الكلام وتعليمه، وقد نبغ له أصحاب يخالفونه وهو لا يدري، فإنهم على مذهب الكلابية، فاستحكم طمعهما في إيقاع الوحشة بين هؤلاء الأئمة.


قال الحاكم: سمعت الإمام أبا بكر أحمد بن إسحاق يقول: كان من قضاء الله تعالى أن الحاكم أبا سعيد لما توفي أظهر ابن خزيمة الشماتة بوفاته، هو وجماعة من أصحابه جهلا منهم فسألوه أن يتخذ ضيافة، وكان لابن خزيمة بساتين نزهة.


قال: فأكرهت أنا من بين الجماعة على الخروج في الجملة إليها.. .
فحدثني أبو بكر أحمد بن يحيى المتكلم قال: لما انصرفنا من الضيافة اجتمعنا عند بعض أهل العلم، وجرى ذكر كلام الله: أقديم هو لم يزل، أو نثبت عند إخباره تعالى أنه متكلم به؟ فوقع بيننا في ذلك خوض، قال جماعة منا: كلام البارئ قديم لم يزل.


وقال جماعة: كلامه قديم غير أنه لا يثبت إلا بإخباره وبكلامه.


فبَّكرت إلى أبي علي الثقفي، وأخبرته بما جرى فقال: من أنكر أنه لم يزل فقد اعتقد أنه محدث، وانتشرت هذه المسألة في البلد، وذهب منصور الطوسي في جماعة إلى ابن خزيمة، وأخبروه بذلك حتى قال منصور: ألم أقل للشيخ: إن هؤلاء يعتقدون مذهب الكلابية ؟ وهذا مذهبهم.


قال: فجمع ابن خزيمة أصحابه وقال: ألم أنهكم غير مرة عن الخوض في الكلام ؟ولم يزدهم على هذا ذلك اليوم.


قال الحاكم: وحدثني عبد الله بن إسحاق الأنماطي المتكلم قال: لم يزل الطوسي بأبي بكر بن خزيمة حتى جرأه على أصحابه، وكان أبو بكر ابن إسحاق وأبو بكر بن أبي عثمان يرُدَّان على أبي بكر ما يمليه، ويحضران مجلس أبي علي الثقفي، فيقرؤون ذلك على الملأ، حتى استحكمت الوحشة.


سمعت أبا سعد عبد الرحمن بن أحمد المقرئ، سمعت ابن خزيمة يقول: القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله غير مخلوق، ومن قال: شيء منه مخلوق.


أو يقول: إن القرآن محدث، فهو جهمي، ومن نظر في كتبي، بان له أن الكلابية لعنهم الله كذبة فيما يحكون عني بما هو خلاف أصلي وديانتي، قد عرف أهل الشرق والغرب أنه لم يصنف أحد في التوحيد والقدر وأصول العلم مثل تصنيفي، وقد صح عندي أن هؤلاء الثقفي، والصبغي، ويحيى بن منصور كذبة، قد كذبوا عليَّ في حياتي، فمحرَّمٌ على كلِّ مقتبس علم أن يقبل منهم شيئًا يحكونه عني، وابن أبي عثمان أكذبهم عندي، وأقولهم عليَّ ما لم أقله ».


قال الذهبي رحمه الله بعد أن ساق القصةقلتُ: ما هؤلاء بكذبة، بل أئمة أثبات، وإنما الشيخ تكلم على حسب ما نُقِل له عنهم، فقبَّح الله من ينقل البهتان، ومن يمشي بالنميمة »انتهى .

 

 

* إنها النميمة *

هكذا فعلها النَّمَّامون بين إمام الأئمة وبين طلابه، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فمن يأمن بعد ابن خزيمة إمام الأئمة من شرِّ مثل هؤلاء الملبِّسين الذين يتدثَّرون بثوب الصلاح و يتستَّرون بقناع النصح؟!! وهم أغشُّ الخلق لعباد الله الصالحين! أعاذنا الله من بطانة السوء و رِفاق السُّوء وجُلساء السُّوء .


أخرج الإمام البخاري في صحيحه (7198) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ، إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ، بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ تَعَالَى».


إن القارئ لهذه القصة ليُدرك يقينًا قُبح النَّميمة و فَظاعَة جُرم النمامين، كيف لا! وهي تؤدي إلى مثل هذه النتائج الوخيمة، من فساد ذات البين، وإيغار صدور الأحبة والإخوان بعضهم على بعض، وقطع أواصر الأخوة، الذي يولِّد الفرقة والتباغض وتشتيت شمل الجماعة…


والنميمة هي نقل الكلام بين الناس من شخصٍ لشخصٍ على جهة الإفساد .
 

فهي من حيث الآثار والنتائج المترتبة عليها تُشبه السِّحر إلى حدٍّ ما، ولذك ذكر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب حديثها ضمن أحاديث باب « بيان شيء من السحر » في كتاب التوحيد، فقال بعد أن سرد عددًا من الأحاديث في أنواع السحر و صُوَره: و عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ألا هل أنبئكم ما العضهُ، هي النميمة القالة بين الناس » [ أخرجه مسلم] .


قال عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد تعليقًا على هذا الحديث:« وذكر ابن عبد البر عن يحيى ابن أبي كثير قال: « يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة »، وقال أبو الخطاب في عيون المسائل: ومن السِّحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس، قال في الفروع: ووجهه أنه يقصد الأذى بكلامه وعمله على وجه المكر والحيلة، أشبه السحر »انتهى .


و يشتد جرم النميمة إذا كانت بين العلماء والدعاة وطلبة العلم كما في القصة المذكورة .
ويكفي في بيان عظم جرم النميمة أن صاحبها متوعَّدٌ بعذاب القبر، بل بعدم دخول الجنة!!
ففي البخاري( 218) ومسلم (675 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: « إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير » ثم قال:
«بلى، أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة..».


وفي الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال:« قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« لا يدخل الجنة قتات» وفي لفظ « نمام » [ البخاري ( 6056) ومسلم( 105) ].


و عند أبي داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ليس منَّا من خبَّب امرأة على زوجها أو عبدًا على سيده » [السلسلة الصحيحة للعلامة الألباني(1/123)]، وفي هذا الحديث براءة النبي صلى الله عليه وسلم من المخبِّب.


و التخبيب نتاج النميمة وأدخل العلماء في هذا من خبَّبَ عالمًا على آخر، أو شيخًا على تلميذه، أو مؤمنًا على أخيه ونحو ذلك.
 

والنمامون هم شِرار عباد الله، كما وصفهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك فيما صحَّ عنه من حديث عبد الرحمن بن غنم قال:« خيار عباد الله الذين إذا رُؤوا ذُكر الله، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبرآء العيب » [ السلسلة الصحيحة (6/348) ].


** ولمِا هو مُرتَّبٌ على النميمة من الوعيد الشديد، زيادةً على وصف النبي صلى الله عليه وسلم للنَّمامين بأنهم شرار عباد الله عُدَّت النميمة من كبائر الذنوب و عظائمها، قال الإمام الذهبي في كتابه “الكبائر” (ص209):«( فصل ) [في الترهيب من الإفساد و التحريش بين المؤمنين و بين البهائم و الدواب] : صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: « إن الشيطان قد أيِس أن يعبُده المصلون في جزيرة العرب و لكن في التحريش بينهم »، فكلُّ من حرَّش بين اثنين من بني آدم و نقل بينهما ما يؤذي أحدهما فهو نمَّامٌ من حزبِ الشيطان، من أشرِّ الناس


و النمام هو الذي ينقل الحديث بين الناس و بين اثنين بما يؤذي أحدهما أو يوحش قلبه على صاحبه أو صديقه بأن يقول له : قال عنك فلان كذا و كذا، و فعل كذا و كذا…و من ذلك إفساد قلب المرأة على زوجها و العبد على سيِّده لما روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : « ملعون من خبَّب امرأة على زوجها أو عبدًا على سيِّده » نعوذ بالله من ذلك » انتهى كلام الذهبي.


و النمامون مقدوح في عدالتهم عند أئمة الحديث، فليسوا بثقات و لا مأمونين ففي ترجمة الإمام الزهري أن سليمان بن عبد الملك كان جالساً وعنده الإمام الزهري فجاءه رجل فقال له سليمان: بلغني أنك وقعت فيَّ، وقلت كذا وكذا، فقال الرجل : ما فعلتُ ولا قلت، فقال سليمان: إن الذي أخبرني صادق وثقة، فقال له الإمام الزهري : لا يكون النَّمام صادقاً، فقال سليمان: صدقت، ثم قال للرجل : اذهب بسلام » [«إحياء علوم الدين» مع تخريج العراقي(4/268)].


و قال الإمام ابن حزم رحمه الله: «و ما في جميع الناس شرٌّ من الوُشاة، وهم النمامون، وإن النميمة لطبعٌ يدلُّ على نَتَنِ الأصل، ورداءة الفرع، وفساد الطبع، وخُبث النَّشأة، ولابد لصاحبه من الكذب؛ والنميمة فرعٌ من فروع الكذب ونوع من أنواعه، وكلُّ نمَّام كذَّاب » [«طوق الحمامة»(ص173)].


* ومن قُبح النميمة أنها وأصحابها مصدر لكثير من الإشاعات والوشايات الكاذبة التي راجت وتروج بين الناس هنا وهناك.


وكم سيء الظن بالأخيار، واتُّهِم الأبرار بسبب الوشاية الكاذبة، التي ينسجها الأفاكون القتَّاتون.
 

فمن ذلك:


ما روَّج له المنافقون عن أمِّنا عائشة رضي الله عنها من الإفك والبهتان والإشاعات الكاذبة، حتى أنزل الله في تبرأتها قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة، مدافعًا عنها وعن عرضها، وخسِر هنالك المبطلون، وقُطع دابرُ المفترين، قال تعالى:« إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ» إلى آخر الآيات من سورة [النور:11-13].


* ومن ذلك: ما أشاعه بعضهم عن الإمام البخاري رحمه الله من أنه يقول ببدعة اللفظية حتى حصل بينه وبين جماعة أهل الحديث ما حصل في قضية مأساوية محزنة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في مجموع الفتاوى ( 12/ 364) : « وَكَذَلِكَ أَيْضًا افْتَرَى بَعْضُ النَّاسِ عَلَى الْبُخَارِيِّ الْإِمَامِ صَاحِبِ ” الصَّحِيحِ ” أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَجَعَلُوهُ مِنْ ” اللَّفْظِيَّةِ ” حَتَّى وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ : مِثْلِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذهلي وَأَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ..»انتهى.


* ومن ذلك: ما حصل من بعض النمامين من التحريش بين العلامة العثيمين والعلامة مقبل بن هادي الوادعي رحمهما الله، حيث افتروا على العلامة العثيمين أنه قال عن دعوة الشيخ مقبل: بأنها « جهيمانية »، مما أدى بالعلامة الوادعي إلى أن تكلم بكلامٍ في أحد دروسه، فلما بلغ ذلك الكلام العلامة العثيمين رحمه الله قال: « أقسم بالله ما قلت هذا الكلام »، فما كان من الشيخ مقبل إلا أن تراجع عن كلامه وقام مغضبًا على الوشاة الذين استغلوا قربهم من الشيخ و ثقته التي وضعها فيهم للتحريش بينه وبين إخوانه العلماء، فخسر النمامون منزلتهم عند الشيخ وافتضح أمرهم، و ولَّوا على أدبارهم مفضوحين.


وكم حاول الوشاة النمامون الوقيعة بين العلامة مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله وبين إخوانه العلماء في قصصٍ كثيرة حدث بها خواص طلابه من مشايخنا .


من ذلك نقلهم عن الشيخ مقبل قوله: «اتصل بي الشيخ ربيع وقال لي: إن بعض الناس يسعون في التحريش بيننا فانتبه، قال: فقال لنا الشيخ مقبل رحمه الله: قلت له: يا شيخ: « لو تناطحت الجبال ما اختلفتُ معك ما دام يحكمنا الكتاب والسنة»، وكم سعى النمامون من حدادية ومميعة كذلك للوقيعة بين العلامة ربيع المدخلي وبين إخوانه العلماء ولا يزالون.. ردَّ الله كيدهم في نحورهم.


* إن من مكر كثيرٍ من النَّمامين والمحرِّشين تظاهرهم بالصلاح والسمت الحسن عند العلماء والصالحين، ليكسبوا بذلك ثقتهم ، ويحظوا بحسن ظنهم بهم، فيتَّخِذون ذلك منطلقًا لهم في إفساد ذات بين المؤمنين، وبثِّ الكلام الموغِر للصدور، والتحريش الإبليسي المسبِّب للوحشة و النفور.


ولا سبيل لكشف حال هؤلاء النمَّامين المحرشِّين المتسترين بأقنعة النصح عند من لا يعرف حقائقهم، إلا بإعمال القواعد السلفية في باب الجرح والتعديل و التي منها قاعدة : « بلديُّ الرجل أعرف به من غيره، وكلامه فيه مقدَّمٌ على كلام غيره»، فأهل البلد أدرى بما فيه، وأهل مكة أدرى بشعابها، ونقصد بأهل البلد: العدول الثقات الأمناء.


فمثل هؤلاء إذا شهدوا على بلدِّيهم بأمر ما فالقول قولهم، ولا ينفع حينذاك ما يتستَّر به النمام من المظاهر المزيفة، والأحوال الملفلفة عند غير أهل بلده ممن لا يعرف دقيق أسراره، و لا حقيقة مساره!


ففي الكامل لابن عدي (4/1364) في ترجمة شقيق الضبي، قال ابن عدي:« و شقيق الضبي كوفي لا أعرفه إلا هكذا، وكان من قصاص أهل الكوفة والغالب عليه القصص، ولا أعرف له أحاديث مسندة كما لغيره، وهو مذمومٌ عند أهل بلده، وهم أعرف به»انتهى .


وإنَّنا لنُبشِّر كل من أوذي بسبب وشايات الأفاكين، وإشاعات النمامين أن الله معه وناصره والعاقبة للمتقين، والبوار لسلعة النمامين.


قال الإمام الذهبي رحمه الله في “السير”(12/462/463) في ترجمة الإمام البخاري رحمه الله: «قال عبدالرحمن بن أبي حاتم في ” الجرح والتعديل “: « قدم محمد بن إسماعيل الرَّي سنة خمسين ومئتين، وسمع منه أبي وأبو زرعة، وتركا حديثه عندما كتب إليهما محمد بن يحيى أنه أظهر عندهم بنيسابور أن لفظه بالقرآن مخلوق».


قال الذهبي مُعلِّقًا على كلام ابن أبي حاتمقلت: إن تركا حديثه، أو لم يتركاه، البخاري ثقة مأمون محتجٌّ به في العالم »انتهى.


ألا فليعلم النمامون المحرِّشون بأن الله لهم بالمرصاد، ومصير كيدهم إلى التباب ، وأن فضيحتهم ستكون على رؤوس الأشهاد، وأن ما جاءوا به من المكر والكيد إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين، كما نُبشِّر القتَّاتين الأفاكين بأن ضرر تحريشاتهم عائدٌ إليهم و عليهم عاجلًا أم آجلًا فحبل النَّميمة قصير، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[يونس:23].

 

الواجب على من حُملت إليه النميمة

 

يجب على من حملت إليه النميمة، ستة أمور ذكرها الغزالي في كتابه [إحياء علوم الدين(4/267)] فقال:« كل من حملت إليه النميمة وقيل له: إن فلانا قال فيك كذا وكذا، أو فعل في حقك كذا، أو هو يُدبِّر في إفساد أمرك أو في ممالاة عدوك أو تقبيح حالك أو ما يجري مجراه، فعليه ستة أمور:


الأول: أن لا يصدقه، لأن النَّمام فاسق، وهو مردود الشهادة، قال الله تعالى:( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ).
 

الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصح له ويُقبِّح عليه فعله…


الثالث: أن يبغضه في الله تعالى، فإنه بغيض عند الله تعالى…


الرابع: أن لا تظن بأخيك الغائب السوء، لقول الله تعالى: (اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم).


الخامس: أن لا يحملك ما حكى لك على التجسُّس والبحث لتحقق اتباعا لقول الله تعالى: (ولا تجسسوا ).


السادس: أن لا ترضى لنفسك ما نهيت النمام عنه، ولا تحكي نميمته، فتقول: فلان قد حكى لي كذا وكذا فتكون به نمامًا و مغتابًا، وقد تكون قد أتيت ما عنه نهيت…


قال الحسن: «من نم إليك نمَّ عليك »، وهذا إشارة إلى أن النمام ينبغي أن يُبغض ولا يوثق بقوله ولا بصداقته، وكيف لا يبغض وهو لا ينفك عن الكذب والغيبة والغدر والخيانة والغل والحسد والنفاق والإفساد بين الناس والخديعة وهو ممن يسعون في قطع ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض»انتهى كلام الغزالي.


آخره، والحمد لله رب العالمين .