أَمَانَةُ التَّقِيِّ

المؤلف السعيد بوشن

 


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أمّا بعد:

إِنَّ الأمانةَ شيءٌ عظيمٌ، ومنزلة رائعة، ودرجة رفيعة، من أدَّاها على أكمل وجه فاز في الدارين، ومن خانها كان من الخاسرين في الدنيا والآخرة، لذلك أمر الله بها أن تؤدى على أكمل وجه دون زيادة أو نقصان قال تعالى «فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ» (1)، وقد شدد الله تعالى في خيانة الأمانة فقال جل شأنه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)» (2).

إنَّ ضياعَ الأمانة علامةٌ على بداية ضياع الديانة كما أخبر بذلك الرسول حيث قال: «أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الأَمَانَةُ» (3) فإذا جاء ذلك اليوم رفع الله الأمانة من قلوب الرجال وهي إحدى علامات قيام الساعة قال : «يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ أَخَذَ حَصًى فَدَحْرَجَهُ عَلَى رِجْلِهِ فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ لَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ حَتَّى يُقَالَ إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا» (4).

نتحدث عن الأمانة؛ لأنَّك ترى الرجل في همٍّ وغمٍّ قد طأطأ رأسه وتلعثم في لسانه لا يكاد يبين من شدة ما به من الأذى والألم، يمد يداه يطلب المساعدة والعون فيصادف قلبا رقيقا ونفسا سخية ومؤمنا معطاء ليساعده بمبلغ من المال، وهو يتذكر قول الرسول «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» (5)، ولكن إذا جاء يوم السداد وموعد قضاء الدين وإرجاع المال إلى أصحابه تراه متكاسلا متقاعسا متناسيا لا يبالي بحال الذي كان له عونا على همِّه ومأساته ولم يعلم أنه أصبح ظالما بعدما كان مظلوما في وقت من الأوقات، وغاب عن ذهنه أنَّ الدين شأنه عظيم وأمره خطير قال «مَطْل الغنيِّ ظلم» (6) وقال كذلك «يُغْفَرُ للشهيد كلُّ ذَنْب إلا الدَّيْنَ» (7).

ونتحدث عن الأمانة لأنه من أراد الفوز بحب الله ورسوله يوم القيامة فعليه بأداء الأمانة قال «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلْيَصْدُقْ حَدِيثَهُ إِذَا حَدَّثَ، وَلْيُؤَدِّ أَمَانَتَهُ إِذَا ائْتُمِنَ» (8)، والأمين له أجر الغازي في سبيل الله قال «العَامِلُ على الصّدَقَةِ بالحَقّ كالغَازِي في سَبِيلِ الله حتى يَرْجِعَ إلى بَيْتِهِ» (9) والأمين له أجر المتصدق في سبيل الله قال «إِنَّ الْخَازِنَ الأَمِينَ، الَّذِي يُؤَدِّي مَا أُمِرَ بِهِ، طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ، أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ» (10)، والأمانة سبب في البركة والنماء قال النبي «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» (11).

وكذلك الدين أمانة يجب المحافظة عليها قال تعالى «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا» (12)، قال الحافظ ابن كثير في التفسير بعد ذكر الأقوال في الآية «وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها، بل هي راجعة إلى أنها التكليف، وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهوإن قام بها أثيب وإن تركها عوقب، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه، إلا من وفق الله، والله المستعان»

ومن التكاليف التي أوجبها الله على عباده المؤمنين وهي من صميم الدين صيانة الأعراض وحمايتها من كل تدنيس وصد عنها كل التشويهات وجميع المفسدات، التي تريد تلطيخ العفة وتزييف الفضيلة، وقد ضرب لنا القرآن أروع مثال على ذلك كما في قصة موسى عليه السلام حيث قال جل في علاه، «قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» (13)، بهذا العمل المخلص، فقد استحق هذا الوصف النبيل لأنه منع المرأتان من الاختلاط بالرجال صيانة للعفيفة من دنس الابتذال، وحماية لجناب الفضيلة من التزوير والانتحال، وهذه مهمة كل تقي يريد النجاة لنفسه في الدنيا والآخرة ويسعى إلى مجتمع تحكمه الأخلاق وليس الشهوات والنزوات.

أيها الأمين على دينه ووطنه، إذا أردت أن ترسو بك سفينة النجاة على شاطئ الأمان فتطمأن على دينك من التحريف والتشويه، وتسعد بمجتمع خال من الفساد والتزييف، فلا بد أن يكون سبيلك في الحياة ودربك في الانشغال أن تتطبع على خلق الأمانة حتى في أحلَك المواقف وأصعب الحالات، فهذا يوسف عليه السلام أحسن مثال على ذلك قال تعالى «وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ» (14)، قال الشيخ السعدي «وقد عرف من نفسه من الكفاءة والأمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه عنه»، وهذه الصفة الفارقة كانت سجية النبي فقد جاء وصفه على لسان أعدائه قال هرقل لأبي سفيان ماذا يأمركم فزعمت أنه يأمركم بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة قال : “وهذه صفة نبي” (15)، وهذا الكنز المدفون قد تكفل الله بحفظه لليتيمين بسبب أمانة أبيهما قال تعالى «وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا» (16)، قال سعيد بن جبير : «كان يؤدي الأمانات والودائع إلى أهلها فحفظ الله كنزه حتى أدرك ولداه فاستخرجا كنزهما».

إن هذا الخلق الحميد، والسجية العالية، علامة على صدق الإيمان، قال تعالى في وصف المؤمنين الصادقين «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ» (17)، وهي خصلة رائقة تدل على كمال الإيمان قال «لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ» (18) وقال «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ» (19)، ومن كان هذا حاله لا يمكن أن يتطبع قلبه على مثل هذه الأدناس والأنجاس، قال «يُطبَع المؤمن على كل خلة غيرَ الخيانة والكذب» (20).
ومما يزيد الأمر سوءًا، ويقوي من انتشار الفساد أن تكون خيانة الأمانة ممن يدعي الاستقامة، والالتزام بالشرائع الدينية، ويتستر هذا الخائن وراء حجاب الكتاب والسنة من أجل أن يضفي على نفسه علامة الثقة والأمانة، قال عمر «لا تغرنكم طنطنة الرجل بالليل يعني صلاته فإن الرجل كل الرجل من أدى الأمانة إلى من ائتمنه، ومن سلم المسلون من لسانه ويده» (21)، فالأمر في غاية الخطورة من كان هذا شأنه، لأن الضرر ليس قاصرا عليه بل هو يضرب الدعوة في الصميم، ويتعدى التشويه إلى كل الأبرياء والأمناء.

فليعلم كل من وطن نفسه على هذا الخلق الفاضل، أن الدنيا لا تساوي شيئا أمام النعيم الأبدي الذي ينتظره، قال «أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلاَ عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا : حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ» (22).

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.




(1)- البقرة {283}
(2)- الأنفال {27}
(3)- الصحيحة {1739}
(4)- صحيح الترغيب والترهيب {2994} من حديث حذيفة رضي الله عنه
(5)- صحيح مسلم {2699} من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
(6)- صحيح البخاري {2288} من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
(7)- صحيح مسلم {1886}من حديث عبد الله بن عمرورضي الله عنه
(8)- حسن :تخريج المشكاة للشيخ الألباني رحمه الله {4920}
(9)- سنن الترمذي {645} حديث حسن صحيح من حديث ابي موسى الأشعري رضي الله عنه
(10)- صحيح البخاري {2260} من حديث ابي موسى الأشعري رضي الله عنه
(11)- صحيح البخاري {2110} من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه
(12)- سورة الأحزاب {72}
(13)- سورة القصص {26}
(14)- يوسف { 54}
(15)- صحيح البخاري {2681} من حديث سفيان بن حرب رضي الله عنه
(16)- الكهف {82}
(17)- المؤمنون {8}
(18)- إسناده جيد كما في تخريج المشكاة برقم {32}
(19)- صحيح سنن النساءي {5010} وهوحديث حسن صحيح
(20)- صحيح على شرط الشيخين كما في الإيمان لابن أبي شيبة من حديث مصعب بن سعد رضي الله عنه للشيخ الألباني رحمه الله
(21)- ذكره ابن أبي الدنيا في باب ما جاء في الأمانة ص:139 وص: 140 انظر موسوعة ابن أبي الدنيا
(22)- رواه الهيثمي في مجمع الزوائد بسند حسن [298/10] وقال عنه الشيخ أحمد شاكر إسناده صحيح كما في المسند [138/10] من حديث عبد الله بن عمرورضي الله عنهما