ضوابطُ تعارضِ الظَّاهِرَين في ضَوءِ منهجِ النَّقد والجرح والتعديل / إبراهيم بويران

المؤلف إبراهيم بويران

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:


فمن أصول أهل السنة والجماعة أن الأحكام الدنيوية تبنى على الظواهر، وأما السرائر فيُفوض أمرها إلى الله، فمن أظهر الخير، وصحيح الديانة أُحسن به الظن، وحسبه الله فيما يبطنه، ومن ظهر منه الشر والانحراف سيئ به الظن وعومل بمقتضى ظاهره وإن ادعى سلامة سريرته .


ويستند هذا الأصل السلفي إلى أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، منها ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في [ ( كتاب الشهادات ) باب « الشهداء العدول » رقم (2641) ] .


قال: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ – رضى الله عنه – يَقُولُ: « إنَّ أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّ الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أمِناه وقرَّبناه، وليس إلينا من سريرته شيء، اللَه يحاسبه في سريرته ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدِّقه وإن قال إن سريرته حسنة » .


وقد نقل غير واحد من أهل العلم إجماع العلماء على ما تضمنه هذا الأثر، منهم الحافظ بن حجر، حيث قال رحمه الله في “فتح الباري”( 12 / 273):« وكلهم أجمعوا على أن أحكام الدنيا على الظاهر، والله يتولى السرائر »انتهى .


فليس لنا من الناس إلا ما ظهر منهم، وأما سرائرهم فأمرها إلى الله حيث لم نؤمر بالتنقيب عنها، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم »[ أخرجه البُخَارِي (4094) ، وَمُسلم (1064)] .


قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في ” مجموع الفتاوى ” (4/149):« لا عيبَ على من أظهر مذهبَ السَّلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قبولُ ذلك منه بالاتِّفاق، فإنَّ مذهبَ السَّلف لا يكون إلا حقًّا، فإن كان موافقًا له باطنًا وظاهرًا فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحقِّ باطنًا وظاهرًا، وإن كان موافقًا له في الظَّاهر فقط دون الباطن فهو بمنزلة المنافق فتقبل منه علانيته، وتُوكَلُ سريرتُه إلى الله، فإنَّا لم نؤمر أن ننَقِّبَ عن قلوب النَّاس، ولا أن نشقَّ بطونهم »انتهى .


إلا أن الظاهر قد يعارض بظاهر أقوى منه فيكون الحكم للأقوى منهما .


فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته» [(أخرجه البخاري (391) ].


قال بدر الدين العيني رحمه الله في [عمدة القاري شرح صحيح البخاري (6/337)] في التعليق على هذا الحديث: « فيه أن أمور الناس محمولة على الظاهر دون باطنها فمن أظهر شعائر الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك فإذا دخل رجل غريب في بلد من بلاد المسلمين بدين أو مذهب في الباطن غير أنه عليه زي المسلمين حمل على ظاهر أمره على أنه مسلم حتى يظهر خلاف ذلك »انتهى .


والمعنى أنه إن ظهر منه خلاف ذلك لم يحكم له بالظاهر الأول الذي هو الإسلام، وذلك لقوة الظاهر الثاني .


فمن أظهر السنة وتزيا بزيِّ السلفية، حُكم له بمقتضى هذا الظاهر على أنه سلفي، ما لم يظهر منه خلاف ذلك، فإن ظهر وبدر منه ما يخالف هذا الظاهر بالقرائن القوية، والحجج الشرعية، حمل حاله على الظاهر الثاني وانتقض به الظاهر الأول .


قال الإمام الشافعي رحمه الله في[“الأم”(8/8)]:« و إنما رددنا الحكم بالظاهر لظاهر حكم أحق منه» .

 

 

* ضابط الظاهر الأقوى الذي يحكم به على الشخص ويُجعل ظاهرًا له *

 

 

الذي ينبغي أن يُعلم أن الظاهر قسمان:


الأول: ظاهر خير


الثاني: ظاهر سوء


وهذا الذي أفاده أثر عمر السابق في قوله:« فمن أظهر لنا خيرًا أمناه.. »، « ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه.. » .


فإظهار السنة والتمسك بها قولا وعملا واعتقادًا ظاهرٌ حسن وهو علامة على سلفية الرجل، كما أن إظهار السوء والشر في الأقوال والأفعال، علامة على انحراف الرجل، فإن كل إناء بما فيه ينضح .


وعلى هذا فقصر الظاهر على الظاهر الحسن وجعله هو الأصل دائمًا وطرد ذلك فيمن ظهر في حقه ظاهر شرٍّ أقوى منه، منهج غير سليم، وطريق ليس بسديد .


و هذا الذي دأب عليه الحزبيون أصحاب منهج الموازنات المحدث، فإنك تجدهم ينادون بأعلى أصواتهم بإظهار حسنات المبتدعة في سياق الرد على ضلالاتهم، بدعوى الإنصاف والعدل، ثم يجعلون تلك الحسنات وما يظهره المخالف من الخير هو الأصل في الحكم العام عليه، وهو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه عندهم، في وقت يغفلون ظاهره الآخر المناقض للأول .


ومن ثم طالبوا بمعاملتهم بمقتضى الظاهر الذي يتظاهرون به من الصلاح والتقوى، والحكم عليهم من خلال ذلك الظاهر و اتهموا أهل السنة الذين لم ينخدعوا بظواهرهم المزيفة لما عندهم من القرائن والأدلة الموجبة لسوء الظن بهم، والحذر منهم: بأنهم يخالفون أصل الأخذ بالظاهر، وبأنهم يتدخلون في النيات، ويطعنون في المقاصد، وجعلوا يُلبِّسون على الناس بهذا الهذيان .


والحق أن أهل السنة إنما أهملوا ما يظهره المبتدع من الصلاح والخير ولم يجعلوه أصلًا فيه، أخذًا بأقوى الظاهرَين، وهو ظاهر الشَّر والسوء، لما عندهم من القرائن والبراهين، الموجبة لترجيح هذا الظاهر على الآخر، ولو ادعى المبتدع خلاف ذلك، وتظاهر بضد ذلك فإن ظاهر الحال أقوى من ظاهر المقال .


ففي البخاري (6769) ومسلم (1720) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك. وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى ».

قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه [” الطرق الحكمية “( ص31)]: « فأي شيء أحسن من اعتبار هذه القرينة الظاهرة، فاستدل برضا الكبرى بذلك وأنها قصدت الاسترواح إلى التأسي بمساواة الصغرى في فقد ولدها وبشفقة الصغرى عليه وامتناعها من الرضا بذلك على أنها هي أمه، وأن الحامل لها على الامتناع هو ما قام بقلبها من الرحمة والشفقة التي وضعها الله تعالى في قلب الأم، وقويت هذه القرينة عنده حتى قدمها على إقرارها، فإنه حكم به لها مع قولها: هو ابنها وهذا هو الحق »انتهى .


ومن هنا تعلم أن إلحاق أهل السنة لبعض الناس بالمبتدعة ولو كانوا يدَّعون الانتساب للسنة وأهلها إنما هو تغليبًا لظاهرٍ على ظاهر .


فمن جالس المبتدعة و ركن إلى أهل الأهواء، ودافع عنهم بعد بيان حالهم، فهذا هو ظاهره، إذ ليس لنا منه إلا ما ظهر، فيعد منهم، ولا يقال حينئذٍ: لقد خالفتم أصل الحكم بالظاهر!! لأننا تركنا ظاهره الحسن لظاهر سيِّئٍ أقوى منه دلت عليه الدلائل وقامت عليه البراهين و القرائن .

 

 

ولهذا كان من القواعد المقررة عند أهل السنة:

 

 

« أن الناقل عن الأصل مقدمٌ على المبقي على الأصل »، والناقل عن الأصل هو الناقل عن الظاهر الأول، إلى ظهرٍ ثانٍ أقوى منه، وإنما قدم عليه لأن مع الناقل عن الأصل زيادة علم، ومعه الحجة والبرهان، والقاعدة تقول: « من علم حجة على من لم يعلم »، ولأن الناقل عن الأصل مُثبتٌ للجرح ولخروج المجروح عن ظاهر السلامة، و المبقي على الأصل نافٍ للجرح، ومستصحب للظاهر الأول المنقوض بالظاهر الثاني، والقاعدة تقول: المثبت مقدم على النافي .


و الناقل عن الأصل هو صاحب الجرح المفسر، و المبقي على الأصل هو صاحب التعديل، والقاعدة: أن الجرح المفسر مقدم على التعديل .


قال الخطيب البغدادي رحمه الله في ” الكفاية ” ( 1 / 308): « [باب القول في الجرح والتعديل إذا اجتمعا ، أيهما أولى] .


« اتفق أهل العلم على أن من جرحه الواحد والاثنان ، وعدله مثل عدد من جرحه ، فإن الجرح به أولى، والعلة في ذلك أن الجارح يخبر عن أمر باطن قد علمه، ويصدق المعدل ويقول له: قد علمت من حاله الظاهرة ما علمتها، وتفردت بعلم لم تعلمه من اختبار أمره، وإخبار المعدل عن العدالة الظاهرة لا ينفي صدق قول الجارح فيما أخبر به، فوجب لذلك أن يكون الجرح أولى من التعديل »انتهى .


فالسِّر في تقديم الجرح المفسر على التعديل، وتقديم قول الناقل عن الأصل على قول المبقي على الأصل هو أن الجارح والناقل عن الأصل يخبر عن أمر خفي على المعدِّل، جهِلَه ولم يطلع عليه، لكنه بالنسبة للجارح أمرٌ ظاهر له، فكان ذلك عنده هو ظاهر حال المجروح، وهو ظاهر معارضٌ للظاهرِ الذي يثبته المعدِّل للمجروح، أو يدَّعيه المجروح لنفسه، وأقوى منه، فوجب تقديمه والمصير إليه .
 

ولهذا قال عمر رضي الله عنه:« ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال: إن سريرته حسنة» .


ومن هنا لم يقبل أئمة الحديث التوثيق على الإبهام، وهو قول الراوي: حدثني الثقة، دون أن يسميه، قالوا لأنه قد يكون ثقة عنده مجروحًا عند غيره .


قال الإمام ابن كثير في « الباعث الحثيث »(ص80):«ولو قال: حدثني الثقة، لا يكون ذلك توثيقًا له على الصحيح، لأنه قد يكون ثقة عنده، لا عند غيره »انتهى .


فكم تظاهر المنحرفون تصنعًا بالسنة عند بعض الأئمة والعلماء لينالوا بذلك ثقتهم، ويحضوا بتزكيتهم، فيسارع العالم إلى تزكيتهم اغترارًا بظاهر حالهم، بل قد يصل الأمر بأحدهم إلى الدفاع عن بعض المنحرفين إحسانًا للظن بهم بسبب ما يظهرونه له من الخير والاستقامة، وهو في حقيقة أمره على خلاف ذلك .


ففي « فتح المغيث »(1/301) سئل الإمام مالك رحمه الله عن روايته عن عبد الكريم بن أبي المخارق؟ فقال: « غرَّني بكثرة جلوسه في المسجد » .


فهذا الظاهر الذي اغتر به مالك فروى بسببه عن عبد الكريم بن أبي المخارق، معارضٌ لظاهرٍ أقوى منه علِمَه الأئمة من حال هذا الرجل، وخفي على مالك .


وقل مثل ذلك في كثير من أهل التحزب في زمننا هذا ممن اغتر بعض العلماء بظاهر حالهم وما يتصنعون به أمامهم، فحصلوا بذلك منهم على شيء من الثناء والتزكية، إلا أن ظاهرهم الحقيقي قد أطلع الله عليه غيرهم من العلماء فجرحوهم بحق وكانت الحجة معهم لأن معهم زيادة علم خفيت على من عدَّلهم بناء على ظاهر مصطنع .


وفي مثل هذه الحال وعند تعارض الظواهر التي بسببها يختلف العلماء في الشخص جرحًا وتعديلًا يُقدَّم الظاهر الأقوى المبني على الجرح المفسر من قبل الناقل عن الأصل، على التعديل المبني على ظاهر الحال و حسن الظن .


سُئل العلامة ربيع المدخلي حفظه الله: هل القاعدة التي تقول: الجرح المفسَّر مقدَّم على التعديل المبهم مجمع عليها عند علماء الجرح والتعديل؟ وهل يمكن تطبيقها على الجماعات الإسلامية؟ حيث أنَّ بعض أهل العلم عدَّلوا هذه الجماعات، وبعضهم جرَّحوها؛ فهل يقدَّم المجرِّح على المعدِّل لأنَّ عنده زيادة علم؟


فأجاب حفظه الله:« نعم هذا المنهج قائم ومستمر إلى يوم القيامة إن شاء الله؛ لأنه منهج إسلامي وصحيح تقوم عليه حياة المسلمين ويقوم عليها دينهم ويحمى به دينهم وتحمى به أعراضهم وتحمى به أموالهم، فهذا منهج عظيم لا يحط من شأنه إلا إنسان منحرف ساذج التصور والتفكير.


فنعم هذا المنهج ماشي الآن في الجماعات؛ فقد يزكي الرجل – وهو فاضل – بناء على الظاهر ولا يعرف حقيقة ما عليه القوم، فيأتي إنسان يدرس كتبهم ويدرس واقعهم فيجد أنَّ هذا الذي زكَّاهم قد وقع في خطأ من حيث لا يدري، فزكاهم بناء على هذا الظاهر، فهذا شيء حصل للأئمّة الكبار.


فكم من إنسان زكَّاه الإمام أحمد فقال تلاميذه الذين لا يصلون إلى شيء من فضله: عرفوا ما عند هؤلاء وما فيهم من قدح وما فيهم من جرح فأسقطوهم؛ وإن كان قد زكاهم أحمد رحمه الله؟


وزكَّى الشافعي أناساً وجرحهم آخرون؛ وقدَّم جرح هؤلاء المفسر القائم على معرفة الحقيقة على أقوال الأئمة الذين زكوا بناء على ما ظهر لهم؟


لأنه قد يأتي إنسان يعني عنده طلب علم يتظاهر بالدين والنسك والأخلاق الطيبة ويلازمك أيام: فتبنيه على الظاهر.


أنا والله زكَّيتُ أناساً في هذا العام، والله لازموني، وما شاء الله تنسَّك، وكذا، وكذا، وكذا، ثم ظهر لي جرحهم، أنا إذا صلَّى معي وزكى وكذا وذكر الله وسافر معي وإلى آخره؛ أشهد بناء على ما رأيتُ، لا أزكي على الله أحداً، لكن يأتي إنسان آخر عرفه أكثر مني، كشف عنه أخطاء، وكشف عنده أشياء تقدح في عدالته، فيجرح، فيجرحه بعلم ويبرهن على جرحه بالأدلة ويفسِّر جرحه، فيُقدَّم جرحه على تعديلي، وأنا أستسلم صراحة، قَدَّم الأدلة على جرح هذا الإنسان أقول: خلاص الحق معك »[ من شريط « أسباب الانحراف وتوجيهات منهجية »].


وسُئل حفظه الله في الشريط السابق: بعض الدعاة لا تُعرف لهم سلفية وقد حُذِّر منهم، وما زال هناك مَنْ يجالس أولئك بحجة أنه لم يجرح بجرح مفصَّل، وقد زُكُّوا من قبل الشيخ العباد وغيره، فانقسم الأخوة بين مجرح ومعدل بسبب أولئك الدعاة؛ فما قولكم لهم؟


فأجاب حفظه الله:« يجب على الشخص الذي يختلف حوله الناس ولا يزكِّي نفسه بإبراز المنهج السلفي وإنما يعتمد على تزكية فلان وفلان! وفلان و فلان ليسوا بمعصومين في تزكياتهم، فقد يزكُّون بناء على ظاهر حال الشخص الذي قد يتملَّقهم ويتظاهر لهم بأنه على سلفية وعلى منهج صحيح، وهو يبطن خلاف ما يظهر…


وأنا مرةً قلتُ للشيخ ابن باز رحمه الله: كانت تصدر منه بعض الكلمات تشبه تزكية لجماعة التبليغ – وإن كان إلى جانبها شيء من لفتات الأذكياء إلى ما عندهم من ضلال وجهل – فيستغل هؤلاء الكلمات التي فيها شيء من الثناء عليهم، و يخفون ما فيها من طعن خفي في عقيدتهم ومنهجهم، فيبرزون الثناء ويخفون الجرح، فجلستُ مع الشيخ رحمه الله جلسة فقلتُ له:… يا شيخ، قال: نعم، قلتُ له: هل جاءك أحد من أهل الحديث من الهند وباكستان أو من أنصار السنة في مصر والسودان – ذاك الوقت كانوا على غاية الثبات على المنهج السلفي، ثم هبت أعاصير الفتن والسياسة دبت في الصفوف ووقعت شيء من الخلخلة – يطلب منك تزكية على أنهم على حق وعلى سنة، قال: لا، قلتُ: لماذا؟ قال: لماذا أنت؟ قلتُ: لأنَّ هؤلاء تشهد لهم أعمالهم وتزكيهم بأنهم على الحق، وأما جماعة التبليغ وأمثالهم فإنَّ أعمالهم لا تزكيهم؛ بل تدينهم بأنهم على ضلال وبدع، فضحك الشيخ رحمه الله.


فبعض الناس لا تزكيه أعماله ولا مواقفه، ولا تشهد له بأنه سلفي، فيلجأ إلى هذه الوسائل الدنيئة من الاحتيال على بعض الناس والتملُّق لهم حتى يحصلوا على التزكية، ويكتفون بهذا »انتهى .


صدق إمام الجرح والتعديل! فكم من إنسان لا غرض له من مجالسة المشايخ والعلماء والقرب منهم إلا نيل التزكية، وكسب الثقة، ولاهمَّ له في الاستفادة منهم، ومن علومهم، بل لعله من أزهد الناس فيهم، وبعضهم يتدثر بالمنهج السلفي نفاقًا ويتظاهر بالسنة عند المشايخ ويدسُّ نفسه في صفوف السلفيين، حتى إذا حصل على تزكيةٍ من بعض المشايخ أو من أحدهم ذهب يتصيَّد بها أهل السنة، لتجميع الناس حوله، في وقت تشهد عليه عقيدته ومنهجه وكذا مواقفه على أنه على خلاف ما يدعي، وأنه في واد، والتزكية التي يتبجَّح بها في وادٍ آخر، فكم تسبب أمثال هؤلاء في نشوب الخلافات بين السلفيين، فبعضهم يحسن به الظن ويجلس إليه بناء على تزكية من زكاه من المشايخ، وبعضهم ينفر منه بناء على ما يعلمه عنه ويراه منه من سوء الفعال، ورداءة الحال .


ولا مخرج من هذه الخلافات ولا مزيل لهذه النزاعات إلا بإعمال قواعد السلف، في تقديم الجرح المفسر المُبيَّن السبب، و المؤيد بالحجج والبراهين على التعديل المبني على ظاهر الحال .


و تقديم قول من علم على من لم يعلم، وقول بلدي الرجل على غيره…


فإن هذه القواعد العظيمة تتلاشى عندها المظاهر الجوفاء، والأحوال المزيفة، و يُفتضح بها الأدعياء، وتنكشف بها الحقائق فمستريحٌ ومستراح ٌمنه .


ولذلك ترى أهل البدع يحشدون شبههم لتغييب هذه القواعد وتهميشها، وهدم هذه الأصول وردمها، و تشييد الضلالات على أنقاضها .
قال العلامة المجاهد ربيع المدخلي حفظه الله في خاتمة كتابه « الحد ال بين الحق والباطل: « يجب أن يعلم علماؤنا الأفاضل أن لأهل الأهواء والتحزب أساليب رهيبة لاحتواء الشباب والتسلط والسيطرة على عقولهم ولإحباط جهود المناضلين في الساحة عن المنهج السلفي وأهله.


من تِلكم الأساليب الماكرة: استغلال سكوت بعض العلماء عن فلان وفلان، ولو كان من أضلِّ الناس، فلو قدَّم الناقدون أقوى الحجج على بدعه وضلاله فيكفي عند هؤلاء المغالطين لهدم جهود المناضلين الناصحين التساؤل أمام الجهلة؟! فما بال فلان وفلان من العلماء سكتوا عن فلان وفلان؟! ولو كان فلان على ضلال لما سكتوا عن ضلاله؟! وهكذا يلبسون على الدهماء ؛ بل وكثير من المثقفين.


وغالب الناس لا يعرفون قواعد الشريعة ولا أصولها التي منها: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين.


ومن أساليبهم انتزاع التزكيات من بعض العلماء لأناس تدينهم مؤلفاتـهم ومواقفهم ونشاطهم بالبعد عن المنهج السلفي ومنابذة أهله وموالاة خصومه وأمور أخرى.


ومعظم الناس لا يعرفون قواعد الجرح والتعديل، وأن الجرح المفصل مقدم على التعديل؛ لأن المعدل يبني على الظاهر وعلى حسن الظن والجارح يبني على العلم والواقع كما هو معلوم عند أئمة الجرح والتعديل.


و بـهذين الأسلوبين وغيرهما يحبطون جهود الناصحين ونضال المناضلين بكل سهولة ويحتوون دهماء الناس بل  وكثير من المثقفين .


ويجعلون منهم جنودًا لمحاربة المنهج السلفي وأهله والذب عن أئمة البدع والضلال، وما أشدَّ ما يعاني السلفيون من هاتين الثغرتين التي يجب على العلماء سدهما بقوة وحسم لما ترتب عليها من المضار والأخطار »انتهى .

 

 

* قبول توبة المخالف المبتدع وتصحيحها بناء على ظاهر الحال *


قد يقع بعض الناس في شيء من المخالفات البدعة عقدية كانت أو منهجية فيُجرَّح بسببها ويُحذَّر منه، ويكون ظاهره عند أهل السنة هو هذا الذي أظهره وأبرزه من المخالفات سواء في كتاباته، أو أشرطته و دروسه ونحو ذلك، ويجعلون هذا الظاهر هو الأصل فيه، أي: أن الأصل فيه هو الانحراف و البدعة، كل ذلك بناء على ظاهره السيء الذي عُلم عنه واشتهر به، ثم قد يُوفِقه الله لترك أخطائه ومخالفاته فيعلن توبته منها و رجوعه إلى الحق ومنهج السلف .

 


فيقبل أهل السنة توبته ويُصحِّحونها إذا استوفت شروطها ، ويقبلونها منه، معاملة له بظاهر حاله .


ويكون هذا الظاهر الثاني، وهو التوبة وصلاح الحال، ناقضًا للظاهر الأول الذي هو البدعة والانحراف، ومُقدمًا عليه، ويُجعل ذلك هو الأصل فيه بحيث لا يُعدل عنه إلا بيقين، وبحجة وبرهان.


فإذا زكَّاه وعدَّله بعض العلماء والمشايخ أو أحدهم بناء على ما علمه أو علموه من صلاح حاله وصحيح توبته، واستقامته وتَركِه لِباطِله، فحينئذٍ يُقدم تعديلهم على قول من بقي مُجرِّحًا له مستصحبًا لظاهره الأول الذي جُرِّح بسببه، وذلك لعدم علمهم بالظاهر الثاني و بما آل إليه حال المجروح .


وهذه الحالة تعتبر من الحالات القليلة التي يُقدَّم فيها التعديل على الجرح المفسَّر .


وهي فيما إذا كان التعديل مُفسَّرًا جامعًا لشرائط المعارضة، ففي هذه الحال يتقوى الظاهر الثاني على الظاهر الأول فيُقدَّم عليه .


قال العلامة ابن الوزير اليماني في كتابه ” الروض الباسم “(1/212-213) : « إن كان الجرح مفسَّر السَّبب : فإما أن يعارضه تعديل جامع لشرائط المعارضة، مثل أن يقول الجارح: إنَّ الرَّاوي ترك صلاة الظُّهر يوم كذا في تاريخ كذا، ويقول المعدِّل: إنَّه صلَّى تلك الصَّلاة في ذلك التَّاريخ.


أو يقول المعدِّل: إنَّه كان في ذلك الوقت نائماً أو مغلوباً على اختياره أو صغيراً غير مكلَّف أو معدوماً غير مخلوق أو غائباً عن حضرة الجارح، أو نحو ذلك؛ فهنا يجب الرُّجوع إلى التَّرجيح أيضًا، ولا يجب قبول الجرح مطلقاً لا قطعاً ولا ظنًّا » انتهى.


وقال السيوطي في ” تدريب الراوي “(1/309):« إذا اجتمع فيه – أي في الراوي- جرح مفسر وتعديل: فالجرح مقدم ولو زاد عدد المعدِّل، هذا هو الأصح عند الفقهاء والأصوليين ، ونقله الخطيب عن جمهور العلماء؛ لأن مع الجارح زيادة علم لم يطلع عليها المعدل ، ولأنه مصدقٌ للمعدِّل فيما أخبر به عن ظاهر حاله، إلا أنه يخبر عن أمر باطن خفي عنه، وقيَّد الفقهاء ذلك بما إذا لم يقل المعدِّل: عرفت السبب الذي ذكره الجارح ولكنه تاب وحسنت حاله فإنه حينئذ يقدم المعدِّل »انتهى .


ولي مقالٌ بحول الله سأنزله في حينه حول موضوع التزكية ممن تكون ولمن تكون وبم تكون ومن ينتفع بها ممن لا تنفعه، فإن باب التعديل والتزكية ليس بأقل خطورة ولا أهمية من باب الجرح والتحذير . أسأل الله الإخلاص و الإعانة والسداد، هو حسبي ونعم الوكيل .


آخره، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .