الاختلاط في الكتاب والسنّة وفتاوى السّلف وعلماء هذه الأمّة (القسم الأوّل) / مراد قرازة

المؤلف مراد قرازة

 

بسم الله الرحمن الرّحيم
الاختلاط
في الكتاب والسنّة وفتاوى السّلف وعلماء هذه الأمّة


المقدمة


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.


﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾


﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً﴾

﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً﴾
 

أما بعد:
 

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسنَ الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.


أمّا بعد :

فلا شكّ أنّ بلية الاختلاط ، من أعظم البلايا وأكبر الرّزايا ، التي ورثتها بلادنا وأغلب بلاد المسلمين ، عن دولة الاستعمار ، وحقبة الاستدمار ، وذلك لما حملته هذه البلوى من مصائب ، وفجائع ، نزلت على دين المسلمين ، كالصواعق المرسلة ، والفتن المدلهمة ، فأفسدت أديانهم وشوّهت أعراضهم ، وذهبت بالشّرف ، والمروءة ، والحياء ، والحشمة من حياتهم.


وقد كنّا إلى أمد قريب نظنّ أنّ حرمة الاختلاط من القضايا المسلمة ، والأحكام القطعية ، التي لا يتسلل إليها شك ، ولا تحوم حولها شبهة ، حتى ظهر فينا على حين غفلة ، من يطلب ضرب ديننا ، والقدح في شرعنا بوجه خفيّ ، ومكر مستتر بلباس شرعي ، وأظهر من كان ينتسب الى العلم والدين – بهتانا وزورا – من الكلام ما يندى له الجبين وتذهل له العقول ، وتحار له الأفئدة.


ذلك أنه زعم أن الكلام في الاختلاط حادث مبتدع من المتعصّبين والمتزمّتين ، وألا وجود لهذا الحكم في نصوص الوحي ، ولا كلام السّلف، وألا أثر له في كتب العلماء ودواوين الاسلام ، وألا دليل في الشرع على حرمته ، بل تمادى أكثر من ذلك ، فزعم أن تركه خلاف الأولى ، وأنّ فعله أقرب إلى روح الشريعة ، وأنسب بحال العصر ، وأحرى بتحقيق المصلحة ، وحشد في سبيل ذلك العديد من الشبه والأباطيل التي يحقّ في مثلها قول الشّعر :

 

 

شبه تهافت كالزّجاج تخالها **** حقّـا وكلّ كاسـر مكســور

 

 

 

 

وقد أحببت أن أجمع في هذا المقال شتات هذه المسألة ، وأضبط حدّها، وأبيّن حكمها ، وأدلّتها ، وأقوال السلف والعلماء فيها ، وأرد الشبه عنها ومن حولها ، حتى لا يبقى بعد ذلك في قلب قارئه ما يحزّ بنفسه من كلام المبطلين ودعاوى المغرضين ، فأقول وبالله التوفيق وعليه التكلان وهو حسبي ونعم الوكيل.

 

 

المبحث الأوّل : تعريف الاختلاط لغة واصطلاحا
 

تعريف الاختلاط لغة واصطلاحا


أ- لغة:


وردت كلمة الاختلاط في عدة مواضع من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك :


– قوله تعالى ” يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ” ( البقرة 220) أي تشاركوهم في المطعم والمشرب والمسكن والخدمة.


– وقوله تعالى ” وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ” (ص 24) أي الشركاء والجيران والخلاّن والنّدماء ونحوهم.


– وقوله تعالى ” وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم ” ( التوبة 102 ) أي ضمّوا عملا صالح إلى آخر سيء ، أو مزجوا بعض ذلك ببعض.


– وقوله صلى الله عليه وسلم ” المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم”(1) أي يداخلهم ببدنه ويشاركهم في مجالسهم وأحاديثهم وأمور معيشتهم.


– و عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير ” يا أبا عمير ما فعل النغير؟ “( 2).


– عن ابْن جُرَيْجٍ قال : أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ إِذْ مَنَعَ ابْنُ هِشَامٍ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مَعَ الرِّجَال قَال : كَيْفَ يَمْنَعُهُنَّ وَقَدْ طَافَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ مَعَ الرِّجَال ؟ قُلتُ : أَبَعْدَ الحِجَابِ أَوْ قَبْلُ ؟ قَال : إِي لعَمْرِي لقَدْ أَدْرَكْتُهُ بَعْدَ الحِجَابِ ، قُلتُ : كَيْفَ يُخَالطْنَ الرِّجَال ؟ قَال : لمْ يَكُنَّ يُخَالطْنَ ، كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِي الله عَنْهَا تَطُوفُ حَجْرَةً مِنَ الرِّجَال لا تُخَالطُهُمْ ، فَقَالتِ امْرَأَةٌ : انْطَلقِي نَسْتَلمْ يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ – أي الحجر الأسود – قَالتِ : انْطَلقِي عَنْكِ وَأَبَتْ ، يَخْرُجْنَ مُتَنَكِّرَاتٍ بِالليْل فَيَطُفْنَ مَعَ الرِّجَال ، وَلكِنَّهُنَّ كُنَّ إِذَا دَخَلنَ البَيْتَ قُمْنَ حَتَّى يَدْخُلنَ وَأُخْرِجَ الرِّجَالُ (3 ).


(حَجرة من الرجال : بعيدة عنهم).


– عن ‏حمزة بن أبي أسيد الأنصاري ‏‏، عن ‏أبيه ‏ ‏أنه سمع رسول الله ‏‏صلى الله عليه وسلم ‏‏يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق ، فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏للنساء ” استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن ‏‏الطريق عليكن بحافات الطريق” فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به( 4).


وممّا سبق من النّصوص يمكن إجمال معنى الاختلاط في مرادفات متقاربة ومتناسبة وهي : الامتزاج، والاجتماع، والمداخلة بالأبدان، والضم، والمجاورة، والاشتراك ، وعلى هذه المعاني الستّة مدار كلام أئمة اللّغة في معاجمهم عن مادة ” خلط ” ، فيرجع إليها من طلب المزيد – واللَّه تعالى أعلم -.


ب- اصطلاحا : اختلف الفقهاء في تحديد معنى الاختلاط وذلك بحسب اختلاف تصوّرهم لماهيته وأفراده وحكمه ، وأغلب ما وقفت عليه من ذلك هو من باب الوصف دون الحدّ ، لذلك لا تكاد تجد من بينها – على كثرتها – تعريفا واحدا جامعا مانعا.


وقد حاولت أن أجمع خلاصتها في هذا التعريف الذي أراه – على اختصاره – أقرب في الدّلالة على المراد – والله اعلم -.


” هو اجتماع الرجال والنساء الأجانب بمكان واحد دون مراعاة لضوابط الشرع غالبا مما تنجرّ عنه ألفة وتزول به الكلفة ، ويكون سببا للفتنة – والعياذ بالله- “.


تعليقات مهمة حول التعريف :


1- من بديهيات هذا البحث أنّ الاختلاط المراد هو اجتماع الرّجال والنّساء بلا تمايز ، فإن حدث الفصل بحاجز ونحوه فلا اختلاط


2- أن المكان المقصود بهذا التعريف هو المكان الضيق – نسبيا – الذي يكون مظنة لتمازج الجنسين وتقاربهما


3- المراد بعدم مراعاة الشرع: أن يكون هذا الاختلاط عند بعض أفراده حائلا دون غضّ البصر ، أو مدخلا لسماع خاضع القول ، أو شمّ الريح ، أو تلامس الأبدان ، أو الاطّلاع على العورات ، ونحو ذلك ممّا يحرم بين الجنسين


4- قد ضبطت هذه المخالفات بحكم الغالب ، لأنه المعتمد في الشرع فيما يتعلّق بالمآلات ، فلا يشترط وقوعها جملة ، ولا وقوعها من كلّ الأفراد كذلك


5- بيّنت في هذا التعريف أهمّ ما يجرّه الاختلاط على صاحبه وهو زوال الكلفة وحدوث الألفة التي تعتبر أساس الفتنة بين الجنسين ، فإن الله جلّ وعلا قد جعل بين الرّجل والمرأة الأجنبية حاجزا من حياء ، والاختلاط هو أعظم أسباب سقوط هذا الحاجز ، وقد قيل قديما أن الألفة تذهب الكلفة ، وكثرة المساس تذهب الإحساس


6- أنّ الاختلاط يكون بالأبدان – وهو الأصل – كما يمكن أن يحدث بالكلام وغيره ، عبر وسائل التواصل الحديثة – والله أعلم –


7- إنّ الاختلاط ليس مفهوما اصطلاحيا محضا وضع للدلالة الرّمزية على المعنى المراد ، بل هو أقرب للمفهوم الشّرعي لوروده في أحاديث النّبي صلّى الله عليه وسلّم ، وكلام الصحابة والتّابعين ، كما سبق وسيأتي بيانه – إن شاء الله – كما أنّ له ارتباطا وثيقا بالمعنى اللّغوي ، لذلك أورده الكثير من أئمة اللّغة في معاجمهم قريبا من هذا المعنى الاصطلاحي


8- كما أنّ الملاحظ للتّعريف السابق ، يدرك مدى وضوح هذا المصطلح وسهولة فهمه ، فليس بذلك المفهوم الفلسفي الفضفاض ، ولا الحد المنطقيّ المعقّد ، وإنّما ركّز دعاة الاختلاط على مسألة المفهوم والتعريف، وتعمّدوا تضبيب المعنى ، ليصرفوا به الناس عن حقيقة الحكم وصراحة الأدلة


9- اشترط بعض أهل العلم في تعريفاتهم شروطا أخرى للاختلاط ، كأن يكون منظماً ومقنّنا ، أو أن يدوم لمدة طويلة ، أو يتكرّر لأكثر من مرّه ، وكلّ ذلك محمول على وصف الحال غالبا ، لا على حكم الشرع ، لأن أحكام الشرع عادة ما تسوي بين المرّة والتكرار والقليل والكثير في أصل الحكم والله أعلم

تحرير المسألة وبيان بعض أفرادها ومظاهرها

قال العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ – رحمه الله -: “اختلاط الرجال بالنساء له ثلاث حالات:


الأولى: اختلاط النساء بمحارمهن من الرجال، وهذا لا إشكال في جوازه
 

الثانية: اختلاط النساء بالأجانب لغرض الفساد، وهذا لا إشكال في تحريمه
 

الثالثة: اختلاط النساء بالأجانب في: دور العلم، والحوانيت، والمكاتب، والمستشفيات، والحفلات، ونحو ذلك ……” (5 )
 

ولا شكّ أنّ القسم الثالث هو محلّ البحث وموطن النّزاع ، ولمّا كان أصل الحكم فرع عن تصوّره ، حاول كثير من الخائضين في هذه المسألة تعميم حكمها وتوسيع دائرة بحثها ، فأدخلوا فيها ما ليس منها ليطلبوا بعد ذلك الطعن في العموم ، بناء على أدلة تتعلّق بهذه الصور المقحمة بسوء نية ، لذلك كان من الواجب تحرير موضع الكلام ، وتعيين صوره المرادة قبل إصدار الحكم وبيان الأدلّة.


وقد سبق حصر الكثير من جوانب المسألة في التعريف الاصطلاحي ، وهذه بعض أفرادها ومظاهرها التي قد تساعد في زيادة الحصر وتوضيح المراد – منتقاة بحسب انتشارها وكثرة كلام العلماء فيها -:


1- اختلاط النساء بالرّجال في المدارس والجامعات وأماكن التّعليم
2

– اختلاط النساء بالرّجال في أماكن العمل ، كالدّوائر الحكومية والمصانع والمحلاّت وغيرها


3– اختلاط النساء بالرّجال في الاجتماعات والندوات والمؤتمرات


4- اختلاط صفوف النساء بالرّجال في الصّلاة واختلاطهم في الأعياد وعند المزارات ، وفي الزّردات والوعدات ونحوها


5- اختلاط النساء بالرّجال في الأعراس والمهرجانات وأماكن اللّهو والرّياضة ونحوها


6- اختلاط النساء بالرّجال في مجموعات التواصل ، ومواقع النّت ، والمنتديات ممّا يجلب الريبة ويسقط الهيبة


7- اختلاط النساء بالرّجال في المطاعم والمقاهي والمحلات ووسائل النقل ، وفي الحدائق والشّواطئ والأماكن العامة


8- اختلاط النساء بالرّجال في الطّوابير والمظاهرات والاعتصامات وغيرها


9- دخول الرّجال على النّساء في البيوت بغير محرم وعكسه ، ومنه اتّخاذ الخدم في البيوت والمكاتب ونحوها


10- اختلاط الأولاد بالبنات – بعد التّمييز – في المضاجع ولو كانوا إخوة


هذه بعض وجوه الاختلاط ، ذكرتها تقريبا للمعنى وتوضيحا للمراد ، وليس الغرض منها الحصر بحال ، ومن خلالها يمكن للمسلم العاقل ، أن يميّز بين حالات الاختلاط المحرّم ، وبين الصّور والمظاهر المباحة التي يوردها أنصار الاختلاط للطعن في حرمته ، كسير النّساء في الطّرقات ، ودخولهنّ الأسواق للحاجة ، وصلاتهن خلف صفوف الرّجال ، وسؤالهن عن أمر دينهنّ ، ومشاركتهن في الجهاد ونحوه.

……. يتبع – باذن الله –
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- رواه الترمذي وابن ماجة بنحوه وحسنه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (2 / 652)
2- رواه البخاري (رقم 2129)
3- رواه البخاري (رقم 1539)
4- رواه أبو داود ، وحسنه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (رقم 856)
5- فتاوى ورسائل العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ (10/ 35) ، وانظر نحوه في فتوى شيخنا أبي عبد المعز محمد علي فركوس – حفظه الله –