التَّطعيمات السَّلفيَّة ضدَّ الأوبئة الحزبيَّة والشُّبهات البدعيَّة / إبراهيم بويران

المؤلف إبراهيم بويران

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين و بعد : فلا يزال أهل البدع والأهواء يسعون في إضلال السلفيين والانحراف بهم عن منهج السلف الذي أنعم الله به عليهم، وشرَّفهم به، وفضَّلهم به على سائر الفرق والجماعات، وذلك ببث الشبهات في أوساط أهل السنة، ونشر الضلالات والأباطيل بينهم لزعزعة عقائدهم ومناهجهم ونقل عدوى أمراضهم إليهم، وإدخال الشكوك على نفوسهم وتمييعهم في أوساط المنحرفين.


فكان لزامًا على السلفيين أخذ الحيطة والحذر من هذه الأساليب الحزبية الماكرة، والمخططات الفاجرة، لما يراد بهم وبدعوتهم، حماية لبيضة السلفيين، و تحصينهم من شبهات المخالفين.


و لعل أعظم سياجٍ يصون به السلفيُّ نفسه من هذا الجانب، حتى يكون كالجدار الواقي الذي يحمي به عقيدته ومنهجه، من مكائد القوم، وشبهاتهم، هو تمسكه بما يلي:


** قراءة كتب الردود والجرح والتعديل والاستفادة منها
** عدم أخذ العلم والدين إلا من عدل مُزكى
** تحقيق أصل الولاء والبراء

 

فإن هذه الأصول الثلاثة لتعتبر أشد عقبة تواجه أهل الأهواء في إمرار مخططاتهم، وتُعيقهم عن تحقيق أهدافهم، إذ أنها بمثابة التطعيم الذي يُكسب الإنسان مناعة ضد الأمراض المعدية والأوبئة المتنقلة، فيكون في مأمن منها ولا تؤثر فيه بإذن الله العلي القدير.


و لذلك فقد أقضَّت هذه الأصول مضاجع أهل الأهواء، و ثارت منها ثائرتهم، حيث سدَّت عليهم المنافذ، وأوصدت في وجوههم الأبواب التي من خلالها يتسللون، لبث سمومهم وشرورهم في الناس .

 

 

الأمر الأول
* منهج النقد وكتب الردود و الجرح و التعديل *


لا يزال باب الجرح والتعديل مفتوحاً عند أهل السنة ما دام في الأرض منكرٌ ومعروف، ومادام أن الصراع لا يزال قائمًا بين أهل الحقِّ وأهل الباطل.

 

 


وقد حاول أهل التحزُّب غلق باب الجرح والتعديل، بل سعوا إلى كسره حتى لا يُفتح بعد كسره أبدًا، و أجلبوا على هذا المنهج بخيلِهم ورجلهم، و كرُّوا عليه بصنوف الشبهات، و أحاطوه بهالة من التشكيكات، و زهدوا فيه وطعنوا في رجاله، فتارة يقولون: الجرح والتعديل انتهى بعصر الرواية، وتارة يقولون:
هو من الغيبة المحرمة، وتارة يقولون: بأنه يُسبِّب الفرقة بين المسلمين، و يضعف الإيمان ويقسي القلوب، وتارة يقولون: بأنه تدخل في النيات وطعن في المقاصد، إلى غير ذلك من الشبه والأراجيف.
بل كابر بعضهم فقال: بأن الجرح والتعديل ليس له أدلة في الكتاب و السنة!!


فلماذا يا ترى تُحشد كل هذه الشبهات وتستجمع كل هذه الأراجيف من قبل الحزبيين حول منهج الجرح والتعديل؟ وما السر في ذلك؟ والجواب: هو أن منهج النقد والجرح والتعديل قد أقض الله به مضاجعهم و أظهر به ضلالهم، و أسقط به أقنعتهم ، و كشف به تميُّعهم، وأبان به انحرافهم، ودحض به أباطيلهم وفضح به تلبيساتهم وتدليساتهم، فبه ميَّز الناس بين سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، وعرفوا حقيقة المبطلين فحذِروهم وتركوهم، ولم تنفُق فيهم شبهاتهم.


قال العلامة مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله في كتابه : [فضائح ونصائح(ص34)]: « مسألة الجرح قصمت ظهورهم…».


إي والله قصمت ظهورهم! وأقضت مضاجعهم، ولا أدل على ذلك من هذا العويل والصراخ الذي يصيح به أهل الأهواء والبدع، تضجرًا وتذمرًا من هذا العلم و أهله، و الصراخ على قدر الألم!


فتراهم يُزهدون في كتب الردود على المخالفين و يُحذرون من قراءتها ويلبسون على الناس بأنها تشغل عن العلم والدعوة و أنها مضيعة للوقت، فيتظاهرون بحرصهم على أوقات الناس – وهم الذين شغلوهم بالفتن والمشاكل- ، كل ذلك لقصد صرف أنظار الناس عن أباطيلهم وضلالاتهم التي دُونت بأدلتها وبراهينها في كتب الردود، ودُحِضت ببراهينها في كتب النقد.


قال أسد السنة العلامة ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله تعالى وأمد في عمره على طاعته: «أوصي الشباب ألا يسمعوا لشبهتين خبيثتين:..فذكر الشبهة الأولى ثم قال:


• والشبهة الثانية: لا تقرءوا في كتب الردود!! كتب الردود.. كتب الردود.. كتب الردود.. يعني معناه أننا نقرأ في كتب البدع!! وكتب الهجوم والطعون في المنهج السلفي وأهله!! ونسمع الأشرطة ونسمع الإذاعات والإعلام والإشاعات!! ونخلِّي أنفسنا أجهزة استقبالٍ لكلِّ هذه الأشياء، لكن لا تمتد أبصارنا إلى كتب الردود!!، لماذا؟!! لأنها ستفضحهم وتُبيِّن مخازيهم وتُبَصِّر الشباب بالحق…
فاعرفوا ماذا يقصدون من محاربة كتب الردود؟! » [من شريط سمعي بعنوان (أسباب الانحراف ووصايا في المنهج)].


وقال حفظه الله:« الحملات الشعواء ضد كتب الردود من أهل الباطل هذا لإدراكهم أن كتب الردود تُبيِّن ما عندهم من الباطل، و هم يريدون أن يقودوا النَّاس كالخرفان، كالعميان، يقودونهم هكذا، فإذا قرأ الشاب في كتب الردود تميَّز الحق من الباطل.


فطبعا! قد يحدِّد موقفه من أهل الضلال الأحياء منهم و الأموات، و هذا أمرٌ صعب عليهم! فاخترعوا هذه الحيلة! لا تقرأ كتب الردود!


طيِّب! مرت عشرات السنين و أهل الباطل يهاجمون أهل الحق، لماذا ما قالوا لا تقرءوا كتب الهجوم؟!!
 

كُتب الهجوم تضر، كُتب الهجوم على الحق، الهجوم الكاسح على الحق ، لماذا ما حذروا منها ؟! بل يعملون لها الدعايات، و الطباعة و النشر و..و.. إلى آخره!


فهذا ينبئكم أن الذين يحذرون من كتب الردود هذه أهدافهم؛ أهدافهم أن ينتشر الباطل دون اعتراض، و الدليل أنهم يروجون لباطلهم!


الباطل الذي في الكتب، و الباطل الذي تحمله أدمغتهم الفاسدة، يروجون له على المنابر و في الصحف، و يروجون الكتب التي تنطوي على الباطل؛ فإذا صدمهم علماء الردود و بيِّنت ما عندهم من الضلال و الباطل ؛ قالوا : اتركوا كتب الردود!


لا تضيِّعوا أوقاتكم في كتب الردود!


كل هذه حيل و مكر لصرف النَّاس عن معرفة الحق، و التمييز بينها و بين الباطل»[ من شريط سمعي بعنوان : ” الرد على المخالف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ” ].


ثم لم يكتف أهل التحزب والبدع بما حشدوه من شبه و إرجافات حول منهج النقد والجرح والتعديل، فراحوا يقعدون القواعد الفاسدة لهدم علم الجرح والتعديل حتى يخلو لهم الجو وتصفوا لهم الساحة لبث سمومهم وشبهاتهم.


فمن تلك القواعد على سبيل المثال لا الحصر، قولهم: نصحِّح الأخطاء لكن لا نُجرِّح ولا نَهدِم الأشخاص، و نتناصَح ولا نَتَفاضَح، ولا نُشَهِّر بالمخالف، وإن كان ولابد من الرد على المخالف فيجب أن يكون بالعدل والإنصاف وذلك بالموازنة بين حسناته و سيئاته، وحمل المجمل من كلامه على المفصل، فتولّد من هذه التأصيلات الكاسدة ما اصطلحوا على تسميته بالمنهج الواسع الأفيح الذي يسع جميع الأمة سنيها وبدعيها، وجميع فرق الضلال وطوائف الباطل، و يستوعب جميع تأصيلاتهم وأباطيلهم.


ثم لم يكتفوا بهذا، حتى استخدموا الإرهاب الفكري ضد علماء الجرح والتعديل وكالوا لهم التهم الباطلة، وروَّجوا عنهم الإشاعات الكاذبة، لزعزعة ثقة الناس فيهم وفي علومهم، بل حتى في ديانتهم، فتارة ينبزونهم بالتشدد وأنهم متشددون، وتارة بأنهم سبابون شتامون، وتارة بأنهم غلاة، وتارة بأنهم هدامون مفسدون مفرقون للأمة، وتارة يتهمونهم بأنهم يتدخلون في نيات الدعاة ويطعنون في مقاصدهم، وتارة يفترون عليهم بأنهم يطعنون في العلماء والدعاة، والحقيقة أنهم يطعنون في أهل الأهواء والبدع، وهم لا يفعلون هذه الأفاعيل المخزية إلا انتقامًا لساداتهم و كبرائهم الذين فضحتهم كتب الردود، و كشف أباطيلهم علم الجرح والتعديل.


فاعرفوا معشر أهل السنة أهمية علم النقد والجرح والتعديل، وقدِّروا القيمة العلمية العظيمة لكتب الردود، ولا يُزهِّدنكم فيها من يتظاهر بالحرص على أوقاتكم من الضياع إن أنتم طالعتم فيها، أو انصرافكم عن الأهم وعن ما ينفعكم إن أنتم قرأتم فيها، فإنكم تستفيدون من كتب الردود علمان:
علمٌ بسبيل المؤمنين مفصلة عقيدة ومنهجا، تقريرًا و تحريرًا.


وعلمٌ بسبيل المجرمين وبأصول وقواعد الفرق الضالة والمناهج المنحرفة والجماعات الحزبية .
ومن جمع العلم بالسبيلين وكان على دراية بهما لم تلتبس عليه إحداهما بالأخرى.


ومن كان هذا حاله مع التزامه بسبيل المؤمنين ظاهرا وباطنا و بعده عن سبيل المجرمين فهو من أعلم الخلق وأنفعهم للناس، كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه “الفوائد”(ص:107-110):«فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده والطريق الموصل إلى الهلكة، فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم، وهم الأدلاء الهداة…» إلى أن قال بعد قسمته للناس من حيث المعرفة والجهل بالسبيلين: « والمقصود أن الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتُجتَنب وتُبغَض، كما يحب أن تُعرف سبيل أوليائه لتُحب وتُسلك…» انتهى.


و لاشك ولاريب أن القراءة في كتب الردود والجرح والتعديل و الاستفادة مما فيها من العلوم الناضجة من أعظم ما يعين على معرفة سبيل المؤمنين على جهة التفصيل فتُحب وتسلك، ومعرفة سبيل المجرمين والمبتدعين الحزبيين فتُبغض وتُجتنب.


وهذا الذي يسعى أهل الأهواء بأصنافهم للحيلولة دون إدراك الناس له، من خلال تزهيدهم في كتب الردود والجرح والتعديل، فإن من جهل السبيلين أو إحداهما أقل أحواله أن تشتبه عليه السبيلان، فيوشك أن يقع في بعض ما هو من سبيل المجرمين المبتدعين وهو يحسب أنه من سبيل المؤمنين السلفيين!


فكم من إنسان تبنى بعض أصول أهل البدع وسار عليها دهرًا من الزمن وهو يحسبها من أصول أهل السنة ! حتى قرأ كتب الردود فانجلى عن وجهه غبار الشبهات فأبصر حقيقة تلك الأصول ومدى مخالفتها لمنهج السلف فتركها.


فمن النتائج التي يسعى أهل الأهواء والبدع للوصول إليها من خلال التزهيد في الردود وكتب النقد والجرح والتعديل وإبعاد الناس عنها بما يحشدونه من الشبهات حولها وحول أهلها: جهل الناس بحقيقة السبيلين وعدم التمييز بينهما مما يؤدي إلى التباس الأمر عليهم، فيسهل عليهم بعد ذلك اصطياد ضحاياهم وافتراسهم، و إيقاعهم في شراكهم وأباطيلهم.


ولهذا قال ابن القيم في تتمة كلامه السابق: « أما من جاء بعد الصحابة فمنهم من نشأ في الإسلام غير عالم تفصيل ضده فالتبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين، فإن اللَّبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما، كما قال عمر بن الخطاب: «إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة؛ إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية »، وهذا من كمال علم عمر… فمن لم يعرف سبيل المجرمين، ولم تستبن له، أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين ودعا إليها وكفَّر من خالفها واستحلَّ منه ما حرَّمه الله ورسوله، كما وقع لأكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية والخوارج والروافض وأشباههم ممن ابتدع بدعة ودعا إليها وكفر من خالفها..»انتهى.


وسئل علامة الجرح والتعديل ربيع السنة المدخلي حفظه الله : هل يحق لطالب العلم أن يقرأ في كتب الردود و نقد الرجال و يحذر الناس من المخالفين، أم لا؟


فأجاب حفظه الله: « نعم ! يحق لطالب العلم أن يتعلَّم العلم، و أن يحفظ كتاب الله، و سنَّة رسول الله صلى الله عليه و سلم بقدر ما يستطيع و التي تسهل فهم الإسلام.


و ممَّا يساعده على التمييز بين الحق و الباطل و الهدى و الضلال؛ كتب الردود!
لأن كتب الردود فيها علم حيّ ، لأنه علم جهاد ؛ علم الردود من أهل السنة أهل الحق علم الجهاد، فيه النَّبض، يميِّز بين الحق و الباطل.


فعلى الشباب أن يستفيدوا من كتب الردود، لأنهم قاصرو الإدراك، لا يميزون بين حق وباطل، وإذا لم يرجع إلى كتب الردود ربما يأخذ البدعة على أنها سنة، و السنة على أنها بدعة، وقد تكون بدع شركية، وقد تكون بدع إلحادية، ويأخذها من ناس…من الصوفية و الروافض وغيرهم من أهل الضلال..و هو لا يميِّز؛ فإذا أراد لنفسه الحماية من الشر فليقرأ كتب الردود إذا اشتبه عليه أمر يرجع إلى كتب الردود و يقرأ منها ليتميَّز له الحق من الباطل، و الهدى من الضلال في ضوء أدلة الكتاب والسنة و فقه السَّلف الصالح.


و أرى في هذا الوقت أنه ينبغي للشباب أن يعنوا بكتب الردود لأن البدع انتشرت والترويج لها والإعلام لها لا حدود له، لأن الباطل عنده إمكانيات مادية، وعنده إعلام خطير، وعندهم دعايات تُبهر عقول الشباب، وتسلب عقوله، فيجعلون الحق باطلاً، والباطل حقا فينقاد لهم الشباب، لشدَّة تأثير هذا الإعلام الشيطاني.


فالذي يريد الله له الهداية، ويسمع النصيحة؛ يقرأ في كتب الردود… لكن الحملات الشعواء ضد كتب الردود من أهل الباطل هذا لإدراكهم أن كتب الردود تُبيِّن ما عندهم من الباطل…»[ من شريط سمعي بعنوان : ” الرد على المخالف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ” ] .

 

 

الأمر الثاني
** اشتراط العدالة و التزكية فيمن يؤخذ عنه العلم **


من الأمور التي أقضَّت مضاجع المبتدعة والحزبيين وثارت بسببها ثائرتهم اشتراط أهل السنة التزكية فيمن يؤخذ عنه العلم، فلا يُجلس عندهم إلا للثقات العدول الذين زكاهم علماء السنة ومشايخها وشهدوا لهم بالعلم والسلفية واشتهروا بها.

 

 


جريًا منهم على القاعدة المشهورة التي أُثرت عن الإمام ابن سيرين رحمه الله وغيره من السلف وتلقاها عنهم علماء السنة بالقبول، والتي مفادها: « إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم »[مقدمة صحيح مسلم ].


و مثلها أو قريب منها ما جاء عن ابن سيرين في مقدمة « صحيح مسلم »أيضًا: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم ».


واشتراط أهل السنة للتزكية والاستقامة والاشتهار بالسلفية فيمن يؤخذ عنه العلم ويُجلس إليه القصد منه إقفال الباب في أوجه المبتدعة وأهل الأهواء الذين لا يؤتمنون على دين الناس، ولا يأمن الناس معهم على عقائدهم ومناهجهم، وكذا إيصاد الطرق وغلقها في أوجه المجاهيل والنكرات الذين لا يدرى ما حالهم، ولا تعرف عقائدهم ومناهجهم، حماية لجمهور أهل السنة من أن تتسرب إليهم الشبهات؛ أو بعض العقائد الفاسدة والمناهج المنحرفة، التي غالبًا ما يكون مصدرها أمثال هؤلاء الحزبيين و المجاهيل المندسين.


فكان لابد من قطع الطريق على أمثال هؤلاء، حماية للأصحاء من أهل السنة من أن تنتقل إليهم عدوى أهل التحزب، وأمراض أهل البدع.


قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله: « قال علماء السلف كابن المبارك و أمثاله: « إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم» فلا يؤخذ الدين من الملبسين الأدعياء، و لا من الواضحين في الضلال، ولا من غيرهم، وإنما يأخذون العلم من أهل العلم الثقات العدول الموالين في الله والمعادين فيه والمنابذين للباطل والداعين إلى الحق وإلى الهدى المستقيم»[ من رسالة ” دفع بغي عدنان على علماء السنة و الإيمان ” (ص97)].


و قال العلامة عبيد الجابري حفظه الله:« أنصحكم -إن كنتم تحبون الناصحين- أن لا تقبلوا شريطاً ولا كتاباً إلا ممن عرفتم أنه على السنة؛ مشهودٌ له بذلك؛ واشتهر بها، ولم يظهر منه خلاف ذلك». [مفرغ من شريط بعنوان:”فقه التعامل مع أهل السنة وأهل الباطل”)].


وكم تسربت من عقائد فاسدة ومناهج منحرفة، وكم تلقن الشباب من الشبهات من كثير من هؤلاء المجاهيل الذين هم في حقيقة أمرهم من جمهرة أهل البدع، إلا أنهم لا يبرزون مناهجهم، ولا يصدعون بعقائدهم، ولا يجاهرون بأفكارهم، فهم كنارٍ بلا دخان، ومن علاماتهم أنك تجدهم يتظاهرون بالورع في الكلام في المناهج ومسائل الجرح والتعديل ونقد الرجال، خشية الوقوع في الغيبة المحرمة بزعمهم، وليس ذلك منهم إلا لأن كلامهم في هذه المسائل يفضحهم، ويكشف ولاءاتهم الحزبية، ويبين انتماءاتهم البدعية.


و من هنا وإمعانًا في التحري وأخذ الحيطة من قِبَلِ أهل السنة ممن يتصدر للتعليم والدعوة أجازوا امتحان من احتيج إلى امتحانه ممن جهلت عدالتهم، ولم يعلم حالهم، أو ارتيب في أمرهم، تحقيقًا لأصل التصفية.


قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في [الفتاوى(15/329)]: « والمؤمن محتاج إلى امتحان من يريد أن يصاحبه ويقارنه بنكاح وغيره… فإذا أراد الإنسان أن يصاحب المؤمن أو أراد المؤمن أن يصاحب أحدًا وقد ذكر عنه الفجور وقيل إنه تاب منه، أو كان ذلك مقولا عنه سواء كان ذلك القول صدقًا أو كذبًا فإنه يمتحنه بما يظهر به بره أو فجوره وصدقه أو كذبه، وكذلك إذا أراد أن يولى أحدًا ولاية امتحنه.. ومعرفة أحوال الناس تارة تكون بشهادات الناس وتارة تكون بالجرح والتعديل وتارة تكون بالاختبار والامتحان »انتهى.


و سئل العلامة عبيد الجابري حفظه الله: نود التفصيل في مسألة امتحان الناس!


فأجاب: « .. من استُـريب في أمره، أو طُلب منه شيء ولم يظهر أَعِندَه أهلية لما يطلب منه أو لا فإنه يُمتحن، وكذلك من أريدَ تزكيته وكان في معزل عن الناس فإنه كذلك يمتحن »[(المصدر السابق) ].


و قد اشتد حنق الحزبييين على مسألة امتحان الناس وعدُّوها من تتبع العثرات، و التجسس على العورات، وما ذلك إلا لأن الامتحان يكشف حقيقة المندسين منهم في أوساط السلفيين، و يقطع عليهم السبيل الذي من خلاله يتسلَّلون لنشر أباطيلهم وبث شرورهم وشبهاتهم في الناس.


فلذلك تراهم يلقون بشبهاتهم على هذا الأصل السلفي و يقعدون في سبيل هدمه القواعد.


فمن شبهاتهم قولهم: « لابأس أنك تقرأ في الكتب ولو كان أصحابها مبتدعة أو مجاهيل، كما أنه يجوز لك أن تجلس إلى أهل البدع ومن جُهِل حاله و تأخذ الحق فقط وتدع الباطل»، هكذا يلبسون على الناس لاسيما من يثق فيهم، وهم يعلمون يقينًا أن أكثر الناس لا قدرة له على التمييز بين الحق والباطل لجهلهم وقلة علمهم، لكنهم يريدون بهذا: الرَّمي بهؤلاء المساكين في أحضان أهل الأهواء والبدع، ليتسنى لهم تلقينهم ما شاءوا من الشبه والأباطيل والمناهج المنحرفة.


وقد تفطن علماء السنة لهذا الكيد الخفي والمكر الكبار وعرفوا مقاصد القوم من مثل هذه الشبهات وصاحوا بهم من كل مكان وحذَّروا الناس من تلبيساتهم.


وكان من أول من تفطن لمراد أهل البدع بمثل هذه الشبهة حامل راية الجرح والتعديل العلامة ربيع المدخلي حفظه الله الذي جعله الله بحق شوكة في حلوقهم، فأبطل ما لايحصى من مخططاتهم، وكشف ما لا يعد من شبهاتهم و تلبيساتهم، ومن ذلك شبهتهم هذه واسمع إليه إذ يقول ناصحا للأمة عامة ولشبابها خاصة:


« أوصي الشباب ألاَّ يسمعوا لشُبهتينِ خَبيثتينِ :
الشبهة الأولى : نقرأ في الكتب ونجالس أهل البدع ونأخذ الحق وندع الباطل : هذه لعبت كما يقال دوراً كبيراً – في رمي كثير من الشباب – في إخراجهم من المنهج السلفي ورميهم في أحضان أهل الباطل والبدع ؛ فهو المسكين يقرأ في كتب البدع ولا يميز بين الحق والباطل فيرى الحقَّ باطلاً والباطل حقاًّ ؛ فيضل !!…


يدعونك إلى قراءة كتب البدع بشبهة أنك تأخذ الحق وتترك الباطل ؛ فيذهب المسكين ضحية للباطل ، لأنك لا تميز بين الحق والباطل ، فترى الحق باطلآً والباطل حقاًّ! وهذا أمر اجتاحوا به ما لا يحصى عدده إلا الله ممن كان ينتمي إلى المنهج السلفي، فهذه من مكايدهم التي تصرفكم عن الثبات على الحق وعن الدعوة إلى الحق وعن التصدي للباطل…»[من شريط سمعي بعنوان: أسباب الانحراف وتوجيهات منهجية].


ثم إنك لا تجد أهل البدع يعملون قواعدهم هذه إلا فيما بينهم ومع من مكان على شاكلتهم، فلذلك تراهم يحذرون من كتب علماء السنة لا سيما كتب الردود التي فضحتهم وكشفت أباطيلهم ولا يقولون لأتباعم: اقرءوا كتب الردود وخذوا الحق ودعوا الباطل؟ بل يحذرون منها مطلقًا، والله المستعان وعليه التكلان .

 

 

الأمر الثالث
** تحقيق الولاء والبراء **


الولاء والبراء الذي هو الحب في الله والبغض في الله، سدٌّ منيع في وجوه المنحرفين، بل هو حجرٌ صحِّيٌّ لهم يمنع من انتقال أدوائهم إلى غيرهم، فإن بُغض المبتدعة يستلزم عداوتهم وعدم مجالستهم وإساءة الظن بهم، فيتعذَّر عليهم حينذاك نشر أباطيلهم وشبهاتهم في الناس، كيف وقد نفر الناس منهم وأبغضوهم؟!

 

 


فلذلك صار أصل الولاء والبراء شوكة في حلوق أهل الأهواء والبدع، و أمرًا محرجًا جدًّا لديهم، إذ هو السياج الحامي لبيضة السلفين من شبهات أهل البدع وأباطيلهم.


ولقد أدرك أهل البدع و الأهواء هذه الحقيقة، وأنه لا سبيل لهم إلى الناس ما دام أصل الولاء والبراء متجذِّرًا في قلوبهم، فلذلك تراهم قد أجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم وحشدوا لهدمه الشبهات، وقعدوا لإسقاطه القواعد الباطلات، سعيًا منهم لإضعاف جانب الولاء والبراء في قلوب الناس حتى يسهل عليهم إضلالهم و تمييعهم وإذابتهم في أوساطهم.


و مع الأسف الشديد فقد نجحوا في إيقاع عدد ليس بالقليل من الناس في حبالهم ورموا بهم في أحضان أهل الأهواء، لا سيما منهم من تهاون أو تساهل في أمر الولاء والبراء، وأحسن الظن بأهل البدع وجالسهم.


ولذلك أكثر أهل السنة من الوصاية بلزوم هذا الأصل وتطبيقه إذ هو المنطلق في معاملة الموافق والمخالف، بل قد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه «أوثق عرى الإيمان »[حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة(4/227)].


يقول العلامة المجاهد ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله:« وأحثُّ السلفيين على الحفاظ على هذا الأصل الذي إن ثبت حُمي الإسلام وإن انهار وسقط تضرّر الإسلام والمسلمون؛ «مبدأ الولاء والبراء» الذي نادى أهل الباطل بإسقاطه، واخترعوا لإسقاطه منهج الموازنات فأول سدٍّ ينهار هو سدّ الولاء والبراء الذي أرى فيه حماية لدين الله الحقّ لعقائده ومناهجه.


هذا أمر مهمّ يجب أن يهتمَّ به السلفيون، لأنَّ هذا السدّ لَمَّا انهار جاءت الدعوة لوحدة الأديان، لأنَّه انهار سدّ الولاء والبراء، وجاءت دعوة التقريب إلى الروافض..كلُّ هذا نتيجة لهدم أصل الولاء والبراء »[ “مجموعة كتب ورسائل الشيخ “(15/26-27)].


إن أمر الولاء والبراء لخطير، بل إن من يخالف فيه قد يخرج بمخالفته عن دائرة أهل السنة لاسيما إذا عكس الأمر فصار يوالي من يستحق البغض والعداء من أهل البدع والأهواء، ويعادي من يستحق الولاء من أهل السنة.


كما بين ذلك العلامة ربيع المدخلي حفظه الله، حيث قال في سياق بيانه لضلالات الإخوان المسلمين: « فما في الأصول العشرين من الضلال المتعمد يخرجهم عن أهل السنة بمقتضى منهج أهل السنة وأصولهم.


وهم قد اتخذوها منهجاً وأفضلهم قد شرحها، والزنداني يتولاها ويشيد بها ومخالفتهم في أصل الولاء والبراء يخرجهم عن أهل السنة »[“مجموعة كتب ورسائل الشيخ “(13/330)].


فالولاء والبراء هو جهاز المناعة لدى السني السلفي، متى فقده فقد منهجه وضاعت عليه عقيدته، ولقد أدرك أهل البدع هذا الأمر، وعرفوا أنهم لن ينالوا من أحد من أهل السنة مادام سائرًا على أصل الولاء والبراء، متمسكًا به مطبقًا له.


فسعوا في زعزعته في نفوس أهل السنة، واجتثاثه من صدورهم، لتنفتح لهم أقفال قلوبهم، ويستبدلوا بغض أهل البدع بالود، وعداوتهم بالمداهنة.


فاستعملوا لتحقيق هذه الغايات أفجر الأساليب الحزبية، وألقوا بثقل شبهاتهم لهدم هذا الجدار الواقي، الذي حال بينهم وبين الوصول إلى مبتغاهم، وتحطمت عنده مساعيهم، و من هذه الشبهات، ولعلي أكتفي بها طلبًا للاختصار:


المطالبة بالمساواة بين العاصي والمبتدع في مسألة الحب والبغض والموالاة والمعاداة.


فيلزمنا على منطقهم محبة المبتدع على قدر ما معه من الموافقة للشرع والسنة، وبغضه بقدر ما معه من البدع، كما أننا نحب العاصي بقدر إيمانه ونبغضه بقدر فسوقه وعصيانه، وهدفهم من ذلك تلميع أهل البدع والثناء عليهم وإبراز محاسنهم وحسناتهم لإغراء الناس بهم، ودعوة الناس إلى محبتهم والتعلق بهم.


فتجدهم يتباكون على المبتدع بأنه مسلم، ومادام أنه كذلك فله حقوق الإسلام من المحبة والأخوة والموالاة، فألحقوه بالعصاة وفسَّاق الملة من جهة الحب والبغض، والموالاة والمعاداة، ما دام أنه لم يخرج من دائرة الإسلام، مع أنك لا تكاد تجدهم يُظهرون إلا محاسنه ويغلِّبونها على مساوئه انطلاقًا من قاعدة الموازنات الحزبية، وهدفهم من ذلك إلغاء الهجر، وهدم أصل البراءة من المبتدعة ومعاداتهم، واستدراج الناس والرمي بهم في أحضان أهل البدع.


وهذا قياسٌ حزبيٌّ فاسد الاعتبار!! إذ أنه لم يُنقل عن السلف أنهم يعاملون المبتدعة من حيث الحب والبغض كما يعاملون العصاة، بل لم يُنقل عنهم إلا الأمر بهجران المبتدعة وبغضهم وذمِّهم ومعاداتهم والتحذير منهم ومن مجالستهم.


سئل العلامة المحدث ربيع بن هادي المدخلي ـ حفظه الله : هل يجتمع في الرجل المبتدع حب وبغض؟


فكان مما أجاب به حفظه الله تعالى أن قال: «.. إذا تأملنا كلام السلف ، واستقرأنا عموم كتب السنة ، فلا نجد هذا التوزيع، توزيع القلب في قضية أهل البدع ، إلى حب من جهة، وبغض من جهة، لا نجد ذلك، و لا نجد من السلف إلا الحث على بُغضهم وهجرانهم، بل قد حكى عدد من الأئمة الإجماع على بُغضهم وهجرهم ومقاطعتهم، حكى عدد من الأئمة منهم الإمام البغوي رحمه الله صاحب ” شرح السنة” وصاحب ” التفسير” وغيرهما من المؤلفات النافعة، وهو إمام من أئمة السنة، ولعله يُعَدُّ من المجددين، وكذلك الإمام الصابوني صاحب ” شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث” وغيره، حكوا الإجماع على بُغض أهل البدع، وهجرانهم، ومقاطعتهم، هذا الإجماع من الصحابة ومن بعدهم.


وأظن أنه ما يستطيع إنسان أن يجمع بين الحب والبُغض، ويوزعهما ويقسمهما قسمين، البغض على قدر ما ارتكب من البدعة ، والحب على ما بقي عليه من السنة ، فهذا تكليف بما لا يُطاق، وكل ّ يؤخذ من قوله ويردّ.


وإن قال هذا القول رجل من أئمة الإسلام ، وشأن أقواله شأن أقوال أئمة السنة ، ما كان من حق ّ قبلناه، ورفعناه على رءوسنا، وما كان من خطإ فهذا مردود، كل يؤخذ من قوله ويردّ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم… فالقول بأن نُحبَّه على قدر ما عنده من سنة، ونُبغضه على قدر ما عنده من البدع ، هذا الكلام لا يوجد عند السلف وقد ناقشنا هذه الفكرة في بعض الكتابات، الرد على أهل الموازنات، ومن يتعلق بالموازنات، ويتستر بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يرى أن الإنسان يُحَبُّ على قدر ما عنده من السنة، ويُبغض على قدر ما عنده من البدع، ورددنا على هذه الأشياء بكلام السلف، ومواقفهم، بل بإجماعهم، أسأل الله أن يُثبتنا على السنة.


كيف نحب الروافض على ما عندهم من الكفريات وهم يبغضوننا أكثر من بُغض اليهود لنا، كيف نُحبهم؟ ونقسم الحب بيننا وبينهم؟ الشاهد أنك تقرأ في كتب السلف جميعا ما تجد هذه الموازنات، ونحن إذا أبغضنا أهل البدع من الصوفية وغيرهم، وهم فِرق كثيرة، ومن الأشعرية وغيرهم، لا نُبغضهم مثل بُغض اليهود والنصارى، يعني أن الحب مثل الإيمان يزيد وينقص، ويتفاوت في العباد، والبغض كذلك، بُغضِي لليهود غير بُغضي للنصارى، غير بُغضي لأهل البدع.


وإذا اعتدى كفار اليهود والنصارى على مثل الأشاعرة والصوفية فنحن نُدافع عنهم، ونُساعدهم على مواجهة هؤلاء الأعداء ، مع بُغضنا لهم ، وهم يُبغضوننا أشد البُغض ، هم ليس عندهم هذا التوزيع، فالواجب عليهم أن يُحبونا وأن يرجعوا إلى ما عندنا ، ولكن لا حب ولا إنصاف ، بل قد يُبالغ بعض غُلاتهم فيُكفرونا ظلما وعُدوانا ، ونحن لا نُكفرهم ولا نبلغ بهم مبلغ عداوة الكافرين » [كتاب عون الباري شرح السنة للبربهاري ( 2 -981 ) للشيخ حفظه الله].

هذا آخر المراد، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين .