بين توحيد أهل السنة وتوحيد أهل البدع / إبراهيم بويران

المؤلف إبراهيم بويران

الحمد لله رب العالمين و بعد: فإن أعظم ما فرضه الله تعالى على عباده، هو التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، وقد كان الاهتمام بهذا الأمر تعليما ودعوة وتحذيرًا مما ما يخالفه، هو منطلق وأساس دعوة الأنبياء جميعا من أولهم إلى آخرهم، كما أوضح الله تعالى ذلك في القرآن غاية الوضوح .


ولما كانت دعوة أهل السنة والجماعة امتدادا لدعوة الأنبياء، ومنهجهم مستمدٌّ من منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله ومُستفادٌ منه، قامت هذه الدعوة المباركة على ما قامت عليه دعوة الأنبياء، وانطلقت من حيث انطلقت دعوة الأنبياء، فاعتنى أهلها بأمر التوحيد غاية العناية، علمًا وتعلُّمًا ودعوةً، وجعلوه منطلقًا وأساسًا لدعوتهم، عليه تقوم، وإليه تدعو، و من أجله توالي وتعادي .
و لم يكن لأهل السنة توحيد غير توحيد الأنبياء، ولا فهمٌ للتوحيد غير فهم السلف، ولا حقيقةٌ للتوحيد غير حقيقته الشرعية، التي هي إفراد الله تعالى بكل ما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وإثبات ذلك على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى.


هذا؛ وقد غلِط كثيرٌ من الطوائف في معنى التوحيد الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، وأراده من عبادة، وفسَّروه بغير معناه الصحيح.


وصارت كلّ طائفة تدَّعي أن ما هي عليه من الباطل هو التوحيد المطلوب، وتسمي ضلالها توحيدًا، قلبًا للحقائق، وتلبيسًا على المسلمين وتغريرًا بهم، حتى انخدع بهم كثير من المسلمين بسبب بعدهم عن دينهم، وجهلهم بحقيقة التوحيد الشرعية.


ولذا؛ توكلت على الله في كتابة هذا المقال، مٌبيِّنًا ومُحذِّرًا من بعض المفاهيم الخاطئة للتوحيد، نصحًا لنفسي ولعموم المسلمين، والله المستعان وعليه التكلان.

 

** مفهوم التوحيد عند المعتزلة **


لقد سمى المعتزلة أنفسهم أهل العدل والتوحيد، أما العدل: فقصدوا به نفي القدر، وإخراج أفعال العباد عن مشيئة الله وخلقه، وإضافتها إلى العباد استقلالا، لأن الله بزعمهم لا يخلق الشر ولا يقضي به، إذ لو خلقه ثم عذَّبهم عليه يكون بذلك ظالمًا لهم، وهو سبحانه عدل لا يظلم، ويلزم على قولهم هذا: أن يكون في ملك الله ما لا يريد، وهو من أبطل الباطل.

 

 

 


** وأما التوحيد- وهو محل الشاهد- ففسره المعتزلة بنفي الصفات وتعطيلها والقول بخلق القرآن، فإثبات الصفات لله تعالى شركٌ عندهم، حيث يستلزم تعدد القدماء والآلهة، لأن أخص وصف الإله عندهم هو القِدم، فكل قديم إله، وبناء على هذا قالوا: إذا أثبتنا الصفات يلزم أن تكون قديمة قِدم الإله، فنكون بذلك قد أثبتنا آلهةً متعدِّدة قديمة وهذا هو الشرك، ولا ينتفي هذا الشرك إلا بتعطيل الصفات وإنكارها، وبذلك يتحقق التوحيد.


قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه[الصواعق المرسلة(3/938)]:« قول هؤلاء المعطلة: أخص صفات الإله « القديم » فإذا أثبتم معه صفات قديمة لزم أن تكون آلهة، فلا يكون الإله واحدًا بل يكون لكم آلهة متعددة؟!.


فيقال لهؤلاء المدلسين الملبسين على أمثالهم من أشباه الأنعام: المحذور الذي نفاه العقل والشرع والفطرة وأجمعت الأنبياء من أولهم إلى آخرهم على بطلانه أن يكون مع الله آلهة أخرى، لا أن يكون إله العالمين الواحد القهار حيًّا قيومًا سميعًا بصيرًا متكلمًا آمرًا ناهيًا فوق عرشه له الأسماء الحسنى والصفات العلى فلم ينف العقل والشرع والفطرة أن يكون للإله الواحد صفات كمال ونعوت جلال يختص بها لذاته فلبستم على المخدوعين المغرورين وأوهمتموهم أنه لو كان فوق عرشه موصوفا بصفات الكمال يرى بالأبصار عيانا يوم القيامة لم يكن إلهًا واحدًا وكان هناك آلهة متعددة وقدماء متغايرة..»انتهى.


وقال العلامة ابن باز رحمه الله:« فقالوا [المعتزلة]: الأصول الخمسة:
التوحيد، هذا واحد، ثم فسروا التوحيد بما يخالف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فالتوحيد بين الرب جل وعلا أنه إخلاص العبادة لله وحده، والكفر بما يعبد من دون الله..هم جعلوا التوحيد: نفي الصفات وإبطال الصفات، و أن تكون ذاتًا مجردة عن الصفات، قالوا: هذا هو التوحيد»[التعليقات البازية على شرح العقيدة الطحاوية(2/655)] .


و قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه” اقتضاء الصراط المستقيم” (ص539): «وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام، ومن أهل الإرادة والعبادة، حتى قلبوا حقيقته فطائفة: ظنت أن التوحيد هو نفي الصفات، بل نفي الأسماء الحسنى أيضا، وسموا أنفسهم: أهل التوحيد، وأثبتوا ذاتا مجردة عن الصفات…» انتهى.


فلا يكون الرب تعالى واحدًا عند المعتزلة حتى تُنفى عنه جميع الصفات، فمن أثبتها وقع في الشرك والتشبيه والتجسيم، ولما كان مذهبهم قائمًا على تعطيل الصفات سمُّوا أنفسهم أهل التوحيد .
 

** مفهوم التوحيد عند المتكلمين **


عامة المتكلمين الذين يُقرِّرون التوحيد في كتبهم غايتهم أن يجعلوه ثلاثة أنواع، فيقولون:


هو واحد في ذاته لا قسيم له


وواحد في صفاته لا شبيه له


وواحد في أفعاله لا شريك له


وفي ذلك يقول الشهرستاني –وهو واحد منهم- في كتابه [الملل والنحل (1/55)] :«إن الله تعالى واحد في ذاته لا قسيم له، و واحد في صفاته الأزلية لا نظير له، و واحد في أفعاله لا شريك له» انتهى.


قال البيجوري في ” شرح جوهرة التوحيد “(ص59) : مٌبيِّنًا لمعاني هذه الأقسام الثلاثة:« وحدانية الذات تنفي تركب الذات وتعددها، ووحدانية الصفات تنفي التعدد في صفات الله من جنس واحد، وتنفي مشابهة صفات الخلق لصفاته، ووحدانية الأفعال تنفي أن يكون لغير الله فعل من الأفعال على وجه الإيجاد»انتهى.


ومما يلاحظ على المتكلمين، عدم إدخالهم لتوحيد الألوهية والعبادة في أقسام التوحيد، وأشهر أنواع التوحيد عندهم، هو النوع الثالث: توحيد الأفعال الذي هو توحيد الربوبية، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب، بل ويعتقدون أن هذا النوع من التوحيد هو معنى «لا إله إلا الله»، فمن أقرَّ بهذا النوع من التوحيد يكون قد حقَّق التوحيد المطلوب، وصار مُوحِّدًا كامل التوحيد.


يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه [اقتضاء الصراط المستقيم (ص539) ]:«وطائفة: ظنوا أن التوحيد ليس إلا الإقرار بتوحيد الربوبية، وأن الله خلق كل شيء، وهو الذي يسمونه توحيد الأفعال.


ومن أهل الكلام: من أطال نظره في تقرير هذا التوحيد، إما بدليل أن الاشتراك يوجب نقص القدرة وفوات الكمال، وبأن استقلال كل من الفاعلين بالمفعول محال، وإما بغير ذلك من الدلائل، ويظن أنه بذلك قرَّر الوحدانية وأثبت أنه لا إله إلا هو، وأن الإلهية هي: القدرة على الاختراع أو نحو ذلك، فإذا ثبت أنه لا يقدر على الاختراع إلا الله، وأنه لا شريك له في الخلق، كان هذا معنى قولنا: لا إله إلا الله، ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا التوحيد، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [لقمان: 25]، وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 84 – 85] الآيات، وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]. قال ابن عباس وغيره:«تسألهم: من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم مع ذلك يعبدون غيره».


وهذا التوحيد هو من التوحيد الواجب، لكن لا يحصل به الواجب، ولا يخلص بمجرده عن الإشراك الذي هو أكبر الكبائر، الذي لا يغفره الله، بل لا بد أن يخلص لله الدين فلا يعبد إلا إياه فيكون دينه كله لله»انتهى.
 

** مفهوم التوحيد عند الصوفية **


الصوفية كغيرهم من فرق الضلال والابتداع قد حرَّفوا المعنى الصحيح للتوحيد وفسَّروه بغير مراد الله ورسوله.


فعندهم التوحيد على ثلاثة أقسام:


الأول: توحيد العامة، وهذا عندهم يصح بالشواهد


الثاني: توحيد الخاصة: وهو الذي يثبت عندهم بالحقائق


الثالث: توحيد قائم بالقدم، وهو توحيد خاصة الخاصة


وفي بيانها يقول أبو إسماعيل الهروي في كتابه [” منازل السائرين “(3/445) مع مدارج السالكين]:« والتوحيد على ثلاثة وجوه:


الوجه الأول: توحيد العامة الذي يصح بالشواهد

والوجه الثاني: توحيد الخاصة وهو الذي يثبت بالحقائق

والوجه الثالث: توحيد قائم بالقدم وهو توحيد خاصة الخاصة


فأما التوحيد الأول: فهو شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد


هذا هو التوحيد الظاهر الجلي الذي نفى الشرك الأعظم وعليه نصبت القبلة وبه وجبت الذمة وبه حقنت الدماء والأموال وانفصلت دار الإسلام من دار الكفر وصحت به الملة للعامة وإن لم يقوموا بحق الاستدلال بعد أن سلموا من الشبهة والحيرة والريبة بصدق شهادة صححها قبول القلب
هذا توحيد العامة الذي يصح بالشواهد والشواهد هي الرسالة والصنائع يجب بالسمع ويوجد بتبصير الحق وينمو على مشاهدة الشواهد


وأما التوحيد الثاني: الذي يثبت بالحقائق فهو توحيد الخاصة وهو إسقاط الأسباب الظاهرة والصعود عن منازعات العقول وعن التعلق بالشواهد


وهو أن لا تشهد في التوحيد دليلا ولا في التوكل سببا ولا للنجاة وسيلة فتكون مشاهدا سبق الحق بحكمه وعلمه ووضعه الأشياء مواضعها وتعليقه إياها بأحايينها وإخافة إياها في رسومها وتحقق معرفة العلل وتسلك سبيل إسقاط الحدث


هذا توحيد الخاصة الذي يصح بعلم الفناء ويصفو في علم الجمع ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع
وأما التوحيد الثالث: فهو توحيد اختصه الحق لنفسه واستحقه بقدره وألاح منه لائحًا إلى أسرار طائفة من صفوته وأخرسهم عن نعته وأعجزهم عن بثه والذي يشار به غليه على ألسن المشيرين أنه إسقاط الحدث وإثبات القدم على أن هذا الرمز في ذلك التوحيد علة لا يصح ذلك التوحيد إلا باسقاطها
هذا قطب الإشارة إليه على ألسن علماء هذا الطريق وإن زخرفوا له نعوتا وفصلوه فصولا فإن ذلك التوحيد تزيده العبارة خفاء والصفة نفورا والبسط صعوبة
وإلى هذا التوحيد شخص أهل الرياضة وأرباب الأحوال وله قصد أهل التعظيم وإياه عني المتكلمون في عين الجمع
وعليه تصطلم الإشارات ثم لم ينطق عنه لسان ولم تشر إليه عبارة فإن التوحيد وراء ما يشير إليه مكون أو يتعاطاه حين أو يقله سبب وقد أجبت في سالف الزمان سائلا سألني عن توحيد الصوفية بهذه القوافي الثلاث:
ما وحد الواحد من واحد … إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته … عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده … ونعت من ينعته لاحد »انتهى.
وفي إبطال هذا التقسيم الصوفي للتوحيد يقول العلامة ابن أبي العز رحمه الله في [شرح الطحاوية(1/89)]:« وإذا عرف أن توحيد الإلهية هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب كما تقدمت إليه الإشارة – فلا يلتفت إلى قول من قسم التوحيد إلى ثلاثة أنواع وجعل هذا النوع توحيد العامة والنوع الثاني توحيد الخاصة وهو الذي يثبت بالحقائق والنوع الثالث توحيد قائم بالقدم وهو توحيد خاصة الخاصة .. فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسل ودعوا إليه وجاهدوا الأمم عليه، فملة إبراهيم : التوحيد ودين محمد صلى الله عليه و سلم : ما جاء به من عند الله قولا وعملا واعتقادا وكلمة الإخلاص : هي شهادة أن لا إله إلا الله وفطرة الإسلام : هي ما فطر عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له والاستسلام له عبودية وذلا وانقيادا وإنابة .
فهذا توحيد خاصة الخاصة الذي من رغب عنه فهو من أسفه السفهاء .. .
ولا شك أن النوع الثاني والثالث من التوحيد الذي ادعوا أنه توحيد الخاصة وخاصة الخاصة ينتهي إلى الفناء الذي يشمر إليه غالب الصوفية وهو درب خطر يفضي إلى الإتحاد ..فأين قال الرسول: هذا توحيد العامة، وهذا توحيد الخاصة، وهذا توحيد خاصة الخاصة ؟ أو ما يقرب من هذا المعنى ؟ أو أشار إلى هذه النقول والعقول حاضرة » انتهى .

** مفهوم التوحيد عند أرسطوا وابن سينا و أمثالهم **


يقول العلامة ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (3/449): « فأتباع أرسطوا وابن سينا والنصير الطوسي عندهم التوحيد: إثبات وجود مجرد عن الماهية والصفة، بل هو وجود مطلق لا يعرض لشيء من الماهيات ولا يقوم به وصف ولا يتخصص بنعت بل صفاته كلها سلوب وإضافات، فتوحيد هؤلاء هو غاية الإلحاد والجحد والكفر، وفروع هذا التوحيد: إنكار ذات الرب، والقول بقدم الأفلاك، وأن الله لا يبعث من في القبور، وأن النبوة مكتسبة، وأنها حرفة من الحرف كالولاية والسياسة، وأن الله لا يعلم عدد الأفلاك ولا الكواكب ولا يعلم شيئا من الموجودات المعينة ألبتة، وأنه لا يقدر على قلب شيء من أعيان العالم ولا شق الأفلاك ولا خرقها، وأنه لا حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي ولا جنة ولا نار فهذا توحيد هؤلاء » .

 

** مفهوم التوحيد عند الإتحادية و الحلولية **


وفي بيانه يقول العلامة ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (3/450): « وأما الإتحاديه فالتوحيد عندهم أن الحق المنزه هو عين الخلق المشبه، وأنه سبحانه هو عين وجود كل موجود وحقيقته وماهيته، وأنه آية كل شيء وله فيه آية تدل على أنه عينه، وهذا عند محققيهم من خطإ التعبير بل هو نفس الآية ونفس الدليل ونفس المستدل ونفس المستدل عليه، فالتعدد بوجود اعتبارات وهمية لا بالحقيقة والوجود فهو عندهم عين الناكح وعين المنكوح وعين الذابح وعين المذبوح وعين الآكل وعين المأكول، وهذا عندهم هو السر الذي رمزت إليه هوامس الدهور الأولية ورامت إفادته الهداية النبوية كما قاله محققهم وعارفهم ابن سبعين .
ومن فروع هذا التوحيد: أن فرعون وقومه مؤمنون كاملوا الإيمان عارفون بالله على الحقيقة .
ومن فروعه: أن عباد الأصنام على الحق والصواب وأنهم إنما عبدوا عين الله سبحانه لا غيره ومن فروعه أن الحق أن لا فرق في التحريم والتحليل بين الأم والأخت والأجنبية ولا فرق بين الماء والخمر والزنا والنكاح الكل من عين واحدة بل هو العين الواحدة وإنما المحجوبون عن هذا السر قالوا هذا حرام وهذا حلال نعم هو حرام عليكم لأنكم في حجاب عن حقيقة هذا التوحيد .
ومن فروعه أن الأنبياء ضيقوا الطريق على الناس وبعدوا عليهم المقصود والأمر وراء ما جاءوا به ودعوا إليه .

 

 

** مفهوم التوحيد عند القدرية والجبرية **


يقول العلامة ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (3/450): « وأما القدرية فالتوحيد عندهم هو إنكار قدر الله وعموم مشيئته للكائنات وقدرته عليها، ومتأخِّروهم ضموا إلى ذلك توحيد الجهمية فصار حقيقة التوحيد عندهم: إنكار القدر وإنكار حقائق الأسماء الحسنى والصفات العلى، وربما سموا إنكار القدر والكفر بقضاء الرب وقدره عدلا وقالوا نحن أهل العدل والتوحيد .
وأما الجبرية: فالتوحيد عندهم: هو تفرد الرب تعالى بالخلق والفعل وأن العباد غير فاعلين على الحقيقة ولا محدثين لأفعالهم ولا قادرين عليها، وأن الرب تعالى لم يفعل لحكمة ولا غاية تطلب بالفعل وليس في المخلوقات قوى وطبائع وغرائز وأسباب، بل ما ثم إلا مشيئة محضة ترجح مثلا على مثل بغير مرجح ولا حكمة ولا سبب ألبتة »انتهى .

 

 

** مفهوم التوحيد عند الحركيين الحزبيين **


خالف الحركيون كغيرهم من أهل البدع والأهواء أهل السنة في مفهوم التوحيد، ففسروا كلمة التوحيد «لا إله إلا الله »، بلا حاكمية إلا الله، بناءً على تفسيرهم للإله بأنه الحاكم المتسلط، فيرون بأن التوحيد هو إفراد الله تعالى بالحكم والملك.
ومن ثمَّ غلوا في الحاكمية حتى جعلوها مسألة المسائل، وغاية الغايات .
فها هو أحد رءوسهم وهو سيد قطب يقول في كتابه [العدالة الاجتماعية (ص182)]:« إن الأمر المستيقن في هذا الدين: أنه لا يمكن أن يقوم في الضمير عقيدة، ولا في واقع الحياة ديناً؛ إلا أن يشهد الناس أن لا إله إلا الله؛ أي: لا حاكمية إلا لله، حاكمية تتمثل في قضائه وقدره كما تتمثل في شرعه وأمره » .
و يقول في [تفسيره الضلال ( 2/105)]: « فلقد كانوا (أي: العرب) يعرفون من لغتهم معنى (إله) ومعنى (لا إله إلا الله)… كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا…» .
وقال أيضاً في الضلال(2/106): « (لا إله إلا الله)؛ كما كان يدركها العربي العارف بمدلولات لغته: لا حاكمية إلا لله، ولا شريعة إلا من الله، ولا سلطـان لأحد على أحد؛ لأن السلطان كله لله…» [نقلا عن « كتاب أضواء إسلامية على عقيدة سيد قطب » للعلامة ربيع المدخلي حفظه الله ] .
وسيد قطب في تفسيراته هذه للتوحيد ولكلمة التوحيد مُقلِّد لأبي الأعلى المودودي، كما أفاد ذلك العلامة ربيع المدخلي في المرجع السابق، حيث قال تحت عنوان :«
” شذوذ سيد في تفسير (لا إله إلا الله) عن أهل العلم “

« خالف سيد في تفسير (لا إله إلا الله) علماء التوحيد والتفسير والفقه واللغة المعتبرين، وتابع المودودي في هذه النظرة بأن الإله هو الحاكم المتسلط، والمودودي في نظرته هذه تابع الفيلسوف الألماني (هيجل) في “الحكومة الكلية” ».
و قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله:« أقول: إن هذا الذي ينسبه سيد إلى العرب من أن الألوهية تعني الحاكمية لا يعرفه العرب ولا علماء اللغة ولا غيرهم، بل الإله عند العرب هو المعبود الذي يُتقرَّب إليه بالعبادة يُلازمها الخضوع والذل والحب والخوف، وليس معناه عندهم الذي يُتحاكم إليه »[يراجع مجوعة كتب ورسائل الشيخ ربيع(6/51-52)] .
و أختم هذا المقال بكلام للعلامة ابن القيم رحمه الله يُبيِّن فيه التوحيد الصحيح الذي يجب على المسلم تحقيقه اعتقاده، حيث قال في “مدارج السالكين “(3/449) بعد أن ذكر بعض المفاهيم الخاطئة للتوحيد عند بعض الطوائف: « وأما التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه فوراء ذلك
كله وهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد .
فالأول: هو حقيقة ذات الرب تعالى وأسمائه.. وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح…
النوع الثاني: مثل ما تضمنته سورة « قل يا أيها الكافرون » وقوله: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم )..، و غالب سور القرآن بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد، بل نقول قولا كليًّا إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد شاهدة به داعية إليه »انتهى، والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .