قاعدة « كلٌّ يؤخذ من قوله ويردُّ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم » . روايةً ودراية / إبراهيم بويران

المؤلف إبراهيم بويران

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين و بعد:
فإن من القواعد المقررة عند أهل السنة والجماعة، و التي تعتبر عُمدةً عندهم في باب التلقي والاستدلال قولهم:« كلٌّ يؤخذ من قوله ويردُّ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم » .
ولعظم شأن هذه القاعدة عند أهل السنة أحببت أن أكتب هذا المقال الذي هو عبارة عن دراسة مختصرة لهذه القاعدة من جهة الرواية والدراية .


** أصل القاعدة **


جاء لفظ هذه القاعدة عن عدد من الأئمة، بألفاظ متقاربة، كما وردت في حديث مرفوع .
فممن أُثرت عنهم من الأئمة: مجاهد، والحكم بن عتيبة، و مالك .


* أما أثر مجاهد فمداره على سفيان بن عيينة و له إسنادان:


الأول: رواه البخاريُّ في جزء « رفع اليدين في الصلاة »(ص73), و أبو نعيم في « الحلية » (3/300)، و الخطيب في «الفقيه والمتفقه»(1/441)، و ابن عبد البرّ في « التمهيد » (2/118-119)، كلهم عن سُفْيَانِ بنِ عُيينة, عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ , عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «لَيْسَ أَحَدٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ، إِلَّا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ » .


وهذا إسناد صحيح؛ رجاله ثقات، ابن عُيينة إمام، وعبد الكريم هو ابن مالك الجَزَري ثقة.


الثاني: رواه ابن حزم في « الإحكام في أصول الأحكام »(6/145)، : و ابن عبد البر في «التمهيد»(2/118-119)، و أبو شامة في « مختصر المؤمل في الرد إلى الأمر الأول » (ص66) ثلاثتُهم عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد به، بزيادة ابن أبي نجيح في الإسناد بين سفيان بن عُيينة، ومجاهد .


قال ابن عبد البرّ بعد أن ذكر طرقه إلى مجاهد: « وافق الحسن الزعفراني، ويونس بن عبد الأعلى ابنَ وهبٍ في إسناد هذا الحديث وخالفهم ابن أبي عمر، وكلا الحديثين صحيح إن شاء الله وجاز أن يكون عند ابن عيينة هذا الحديث، عن عبد الكريم الجَزَري، وابن أبي نجيح جميعا عن مجاهد » .
* وأما أثر الحكم بن عتيبة، فرواه ابن عبد البر في « جامع بيان العلم وفضله » (2/91)،
قال: حدثنا عبد الوارث بن سفيان، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا أحمد بن زهير قال: حدثني أبي، ثنا سعيد بن عامر قال: نا شعبة، عن الحكم بن عتيبة قال: « ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم»


و من طريق ابن عبد البرّ رواه ابن حزم في « الإحكام » (6/179) فقال: كتب إلي النَّمري نا عبد الوارث بن سفيان نا قاسم بن أصبغ، فذكره بنفس الإسناد .


وقال أبو شامة المقدسي في « مختصر المؤمل » (ص66 )، بعد أن ذكر أثر مجاهد السابق: « وَكَذَلِكَ روى شُعْبَة عَن الحكم بن عتيبة »، والإسناد إليه صحيح .


** وأما أثر مالك فهو الذي اشتهرت نسبته إليه لا سيما عند المتأخرين حتى لا يكاد يعرفه بعضهم إلا عنه، قال العلامة الألباني رحمه الله في « صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم » (26/27): « نسبةُ هذا إلى مالك هو المشهور عند المتأخرين ، وصححه عنه ابن عبد الهادي في « إرشاد السالك » (1/227) »، وقد رواه ابن عبد البر في « الجامع » (2/91) ، وابن حزم في « أصول الأحكام » (6/145 و 179) من قول الحكم بن عُتَيبة, ومجاهد ، وأورده تقي الدين السبكي في « الفتاوى » (1/148) من قول ابن عباس – متعجباً من حسنه – ، ثم قال: « وأخذ هذه الكلمة من ابن عباسٍ مجاهدٌ ، وأخذها منهما مالك رضي الله عنه ، واشتهرت عنه ».


وقال أبو شامة المقدسي في « مختصر المؤمل » (ص66 )، بعد أن ذكر أثر مجاهد، والحكم بن عتيبة، السابقين: « وروى عَن مَالك بن أنس أَنه قَالَ إِلَّا صَاحب هَذَا الْقَبْر وَأَشَارَ إِلَى قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم » .


** وأما الحديث الذي وردت فيه هذه المقالة مرفوعة فأخرجه الطبراني في [« معجمه الكبير» برقم(11941) ] من حديث ابن عباس رَفَعَه، قال: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَزَّارُ، ثنا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، ثنا أَبُو عُبَيْدَةَ الْحَدَّادُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، رَفَعَهُ قَالَ: «لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيَدَعُ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ » .


و ظاهر إسناد هذا الحديث الحسن، رجاله ثقات ماعدا مالك بن دينار صدوق حسن الحديث، كما في ترجمته من « التقريب » .


قال الهيثمي في « مجمع الزوائد » ( 1 / 179) : « ورجاله موثوقون » .


لكن يُخشى أن يكون رفْعُ الحديث من أوهام البزَّار فهو على جلالته كثير الخطأ،، فقد جاء في ترجمته من « تاريخ بغداد » (5/94): عن الدارقطني أنه قال: أَحْمَد بْن عمرو بْن عَبْد الخالق يخطئ فِي الإسناد والمتن، حدث بالمسند بمصر حفظا، ينظر فِي كتب الناس ويحدِّث من حفظه، ولم تكن معه كتب، فأخطأ فِي أحاديث كثيرة، يتكلمون فيه، جرحه أَبُو عَبْد الرَّحْمَن النسائي، وقال فيه مرَّة: ثقةٌ يخطئُ كثيرًا ويتكل على حفظه » [«السير» (13:556)] .


ومن كان هذا حاله عند علماء الحديث فإنه لا يتحمل التفرد من بين الأئمة برفع حديث، عظيم الشأن كهذا، لا سيما وأن رفعه مما لم يتناقله العلماء، ولا هو متداول بينهم، مع كثرة احتجاجهم واستدلالهم به، ومع توفر الدواعي على نقله لو كان مرفوعًا، فإن إضافة مثل هذه المقالة العظيمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لو ثبت رفعها إليه أولى و آكد من إضافتها إلى من دونه كما لا يخفى ، وعلى هذا ففي النَّفسِ من رفعِ هذا الحديثِ شيءٌ، والله أعلم بالصواب .


وعلى كلِّ حالٍ فهي مقالة صحيحة ثابتة عن جماعة من السلف كما تقدَّم، بل قد نقلَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله اتفاقهم على مدلولها ومضمونها، حيث قال كما في « الفتاوى » (11/208) : «وَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا مِنْ الْفُرُوقِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ يَجِبُ لَهُمْ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ؛ بِخِلَافِ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّهُمْ لَا تَجِب طَاعَتُهُمْ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ وَلَا الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ؛ بَلْ يُعْرَضُ أَمْرُهُمْ وَخَبَرُهُمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَا وَافَقَ الْكِتَاب وَالسُّنَّةَ وَجَبَ قَبُولُهُ وَمَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ كَانَ مَرْدُودًا وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَكَانَ مُجْتَهِدًا مَعْذُورًا فِيمَا قَالَهُ لَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ »انتهى.


** فقه القاعدة **


المراد بهذه القاعدة عند السلف: أن كلَّ أحدٍ من الناس كائنًا من كان، يُؤخذ من قوله ويُترك، أي: يُؤخذ منه ويُقبل ما وافق الحق، ويُترك ويُردُّ ما خالف الحق؛ لأنه غير معصوم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيُؤخذ بكل ما قاله ويُقبل لأنه وحيٌ يوحى .


وهذا إن دلَّ على شيءٍ إنما يدلُّ على شِدَّة تعظيم أهل السنة للنصوص الشرعية، المتمثلة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتقديمها على أقوال الرجال واجتهاداتهم، فهم لا يعاملون أقوال أئِمتهِم معاملة النصوص الشرعية من حيث القبول والتسليم المطلق، ولا يجعلون أقوال علمائهم بمنزلة النصوص التي تحرم مخالفتها ومعارضتها؛ بل يأخذون منها ما وافق الحق والأدلة، ويتركون ما خالف ذلك؛ لأنها ليست وحيًا منزَّلاً صادرًا عن معصوم؛ وما ذاك إلا لإيمانهم بأنه لا معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما ما عداه فهو معرض للخطأ كائنًا من كان .
ومن هنا قالوا: « إذا ورد الأثر بطل النظر »، و « إذا ورد نهر الله بطل نهر معقل » .


وقالوا: « الحق لا يعرف بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق» و« تعرض آراء الرجال على الدليل ولا يعرض الحق على آراء الخلق » .


وجريًا منهم على هذه القاعدة، وتحقيقًا منهم لمضمونها ومدلولها، تظافرت أقوال الأئمة في الحث على اتباع السنة، والأخذ بها، وترك أقوالهم المخالفة لها .


فمما أُثر عنهم في ذلك:


قول الإمام مالك رحمه الله:« إنما أنا بشر أخطيء وأصيب فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه » .


وقول الإمام الشافعي رحمه الله:« ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول أو أصَّلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت؛ فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه سلم وهو قولي ». وقال:« إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوا ما قلت »، وفي رواية: «فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد» .


وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله:« إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي » .


بل قد نقل الإمام الشافعيُّ إجماع الأئمة على أن: « من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له ليدعها لقول أحد »[ انظر هذه الآثار كلّها مع الإحالة إلى مراجعها في ” مقدمة صفة الصلاة ” للعلامة الألباني رحمه الله] .


** هل يتعمد الأئمةُ مخالفةَ النصوص الشرعية في أقوالهم التي رُدَّت عليهم **


وفي الجواب على هذا السؤال يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في مقدمة رسالته ” رفع الملام عن الأئمة الأعلام “(ص8):« وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ -الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ قَبُولًا عَامًّا- يَتَعَمَّدُ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي شَيْءٍ مِنْ سُنَّتِهِ؛ دَقِيقٍ وَلَا جَلِيلٍ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ اتِّفَاقًا يَقِينِيًّا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ, إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .


وَلَكِنْ إذَا وُجِدَ لِوَاحِدِ مِنْهُمْ قَوْلٌ قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِخِلَافِهِ, فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عُذْرٍ فِي تَرْكِهِ، وَجَمِيعُ الْأَعْذَارِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:


أَحَدُهَا: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ .


وَالثَّانِي: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ إرَادَةَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ.


وَالثَّالِثُ: اعْتِقَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ .


وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ تَتَفَرَّعُ إلَى أَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ.. »انتهى .


فالظن الواجب ظنُّه في أئمة الإسلام المعتبرين أنهم لا يتعمدون مخالفة الأدلة الشرعية وإنما يحصل ذلك منهم لعذر من الأعذار الشرعية اجتهادًا من غير قصد، كما أفاده شيخ الإسلام ابن تيمية ، وقد استوفى رحمه الله في كتابه « رفع الملام عن الأئمة الأعلام » الأعذار التي يعذر الله بها المجتهد المخطئ وأوصلها إلى عشرة أسباب .


ومما يدل على عدم تعمُّد الأئمة مخالفة الأدلة الشرعية أنه ما من إمام إلا و حثَّ أتباعه على الأخذ بالدليل، و أوصاهم بترك قوله إذا خالف الكتاب والسنة، وقد سبق نقل بعض أقوالهم في ذلك .
« و مثل هذا يقوله الأئمة على سبيل الاحتياطا ؛ لأنه لم تبلغهم كل الأحاديث؛ فقد يفوت أحدهم بعضها، أو يقف على حديث من طريق واحد ضعيف، فيعلق الأمر على الصحة، فإن صح فهو قوله ومذهبه .


و انطلاقاً من هذا المنهج كان يرجع الصحابة عن أخطائهم، والعلماء عن أخطائهم، ومنه رجع أبو يوسف ومحمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة عن ثلث أو ثلثي المذهب بعدما تبين لهم أن الحق في خلاف مذهب أبي حنيفة » [ ” مجموعة كتب ورسائل الشيخ ربيع المدخلي” (11/500)، بتصرف يسير] .


** الموقف الشرعي من أخطاء الأئمة والعلماء **


إذا تقرر ما سبق، من أنه لا معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، و أن كل أحدٍ سواه كائنًا من كان إلا و يؤخذ من قوله ويردّ ، عُلم بأنه ما من إمامٍ أو عالمٍ مهما عظُم في العلم إلا و قد وقع فيما يوجب ردَّ بعض أقواله واجتهاداته، وقد قيل: « لكلِّ جوادٍ كبوة ولكلِّ عالمٍ زلَّة » فما هو الموقف الشرعي الصحيح من أخطاء العلماء وزلاتهم؟


والجواب أن يقال: إن أهل السنة يفرِّقون في معاملة المخطئ بين من كان من علماء السنة الذين عُرفوا بتحرِّي الحق وسلامة المقصد، وبين من كان من أهل الأهواء الذين يتبعون المتشابهات، ويؤسِّسون أصولهم على الضلال .


قال العلامة عبيد الجابري حفظه الله كما في رسالته: ” أصول وقواعد في المنهج السلفي” (ص7): « من خالف نصًّا أو إجماعًا رُدَّ عليه ما جاء به من قولٍ أو فعلٍ كائنًا من كان .


ثم إن كان هذا المخالف أصوله سُنَّة، ودعوته سُنَّة، وكل ما جاء عنه سُنَّة، فإنَّ خطأه يردّ ولا يتابع على زلَّته وتُحفظ كرامته، وإن كان ضالًّا مبتدعًا لم يعرف للسنة وزنًا، ولم تقُم لها عنده قائمة مُؤسِّسًا أصوله على الضلال فإنَّه يُردُّ عليه كما يُردُّ على المبتدعة الضُّلَّال، ويقابل بالزَّجر والإغلاظ والتَّحذير منه، إلَّا إذا ترتَّبت مفسدة أكبر من التَّحذير منه » .


** من فوائد القاعدة **


يستفاد من هذه القاعدة السلفية« كلٌّ يؤخذ من قوله و يردُّ إلَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم »، فوائد عديدة، نقتصر منها على ما يلي:


الفائدة الأولى: وجوب الأخذ بالأدلة الشرعية وعدم معارضتها بأقوال البشر، القابلة للأخذ والرَّد، كما أوصى بذلك الأئمة .


و في ذلك يقول العلامة ابن القيم رحمه الله كما في ” قصيدته النونية “:


الْعلم قَالَ الله قَالَ رَسُوله ….. قَالَ الصَّحَابَة هم أولو الْعرْفَان
مَا الْعلم نصبك للْخلاف سفاهة … بَين الرَّسُول وَبَين رَأْي فلَان


قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى:« فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفه أن يُبيِّنه للأمة وينصح لهم، ويأمرهم باتِّباع أمره وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة؛ فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يُعظم ويقتدى به من رأى أي معظم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ، ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم على كل مخالف سنة صحيحة وربما أغلظوا في الرد لا بغضًا له بل هو محبوب عندهم معظم في نفوسهم، لكن رسول الله أحب إليهم وأمره فوق أمر كل مخلوق فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره فأمر الرسول أولى أن يقدم ويتبع، ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفورًا له، بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بخلافه »[ نقلًا عن مقدمة “صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم “للعلامة الألباني رحمه الله].


الفائدة الثانية: يؤخذ من القاعدة أن أقوال الأئمة والعلماء مهما بلغوا من العلم « يُحتجُّ لها ولا يحتجُّ بها »، و« يُستدلُّ لها ولا يُستدلُّ بها »، فهي ليست دليلًا مستقلًّا بمجرَّدها، بل هي مفتقرة إلى ما يؤيِّدها ويعضدها، ومنه قيل بأن: « قول المجتهد من أهل العلم ليس بحجة على مجتهد آخر» .


الفائدة الثالثة: التجرُّد للدليل و البعد عن التعصب و التقليد الأعمى للرجال؛ لأنهم ليسوا بمعصومين، فكلُّ واحد منهم يؤخذ من قوله و يترك .


الفائدة الرابعة: قد يستفاد من هذه القاعدة كذلك أن قول الصحابي ليس بحجة، فالصحابة على جلالتهم وعظم شأن أقوالهم، إلا أنها لا تخرج عن هذه القاعدة، لعدم عصمة الواحد منهم، لاسيما إذا علمنا أن هذه القاعدة وردت في حديث مرفوع من قول النبي صلى الله عليه وسلم، إذا سلَّمنا بصحته، فيكون الخطاب منه صلى الله عليه وسلم لجميع الأمة بمن فيهم الصحابة، والله أعلم .


الفائدة الخامسة: رد الخطإ و إنكاره بالطرق الشرعية والآداب المرعية على كل من قال به، ولو كان كبيرًا، فلا يمنع من بيان الخطإ صدوره من عظيم، ولهذا قيل: « انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال »، وقيل: « الرجال يعرفون بالحق ولا يعرف الحق بالرجال »، قال العلامة العثيمين رحمه الله كما في ” كتاب العلم “(ص309):« تصحيح الخطأ: وهذا أمر واجب، يجب على من عثر على وهم إنسان ولو كان من أكبر العلماء أن ينبه على هذا الوهم وعلى هذا الخطأ؛ لأن بيان الحق أمر واجب، وبالسكوت يمكن أن يضيع الحق لاحترام من قال بالباطل؛ لأن احترام الحق أولى بالمراعاة »انتهى.


وقال العلامة عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ كما في” الدرر السنية ( 4/9):« ما زال الصحابة ومن بعدهم ينكرون على من خالف وأخطأ كائنا من كان، ولو كان أعلم الناس وأتقاهم، وإذا كان الله بعث محمدًا بالهدى ودين الحق وأمرنا باتباعه وترك ما خالفه، فمن تمام ذلك أن من خالفه من العلماء مخطئ ينبه على خطئه وينكر عليه »انتهى.


الفائدة السادسة: عرض أقوال العلماء والمجتهدين على الكتاب والسنة، فمادام أن العالم مُعرَّضٌ للخطإ والزَّلل في اجتهاده و ما يُفتِي به، فلابد من عرض قوله على الكتاب والسنة، فإن وافقهما قُبل وإلا رُدّ, وقد سبق قول مالك رحمه الله:« إنما أنا بشر أخطىء وأصيب فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه »، و لا يُعدُّ ردُّ قول العالم المخالف للنص طعنًا في ذلك العالم كما يفهمه بعض مُتعصِّبة المذاهب .


** شبهة وجوابها **


قد يقول قائل: إذا كان كلّ أحدٍ ولو كان إمامًا في السنة يؤخذ من قوله ويترك، فلماذا حذَّر السلف من الأخذ عن المبتدعة والنظر في كتبهم، والتماس العلم منها؟ أفلا يجوز أن نتعامل معهم من منطلق هذه القاعدة؟ فنجلس في مجالسهم، ونقرأ في كتبهم، و لا نأخذ منهم إلا ما وافق الحق ونرد ما خالف ذلك، كما نفعله مع علماء السنة، عملًا بقاعدة:« يقبل الحق من كل من جاء به، ويرد الباطل على كل من قال به »؟


والجواب عن هذه الشبهة أن يقال: إن من أصول أهل السنة والجماعة التماس العلم والدين من أهل السنة الثقات العدول، وعدم التماسه وطلبه من المبتدعة والمجهولين، ومن كتبهم ورسائلهم .


ومما ورد عن السلف في ذلك ما أخرجه مسلم في ” مقدمة صحيحه ” بإسناده عن الإمام ابن سيرين أنه قال: «إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم » .


وأخرج عنه أيضًا قوله:« لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم » .


وقد أجمع أهل السنة على المنع من مجالسة المبتدعة والنظر في كتبهم والاستماع إلى كلامهم، كما نقل ذلك غير واحد من أهل العلم، لما في ذلك من المخاطر التي يتعرض لها من يجالسهم ويستمع لكلامهم، ويقرأ كتبهم، قال ابن مفلح في كتابه “الآداب الشرعية” (1/223) : « وذكر الشيخ موفق الدين رحمه الله في المنع من النظر في كتب المبتدعة، قال: وكان السلف ينهون عن مجالسة أهل البدع، والنظر في كتبهم، والاستماع لكلامهم » .


ثم إنَّ ما عند أهل السنة من الخير والعلم مع أمن من يجالسهم على دينه ، يُغني عمَّا عند أهل البدع والأهواء .


وأما قاعدة :« يقبل الحق من كل من جاء به، ويرد الباطل على كل من قال به »، فهي في قبول الحق، لا في التماس وطلبه، وفرق بين الأمرين، فالحق يقبل من كل من جاء، و لا يجوز ردُّه ورفضه لأنه حق، حتى ولو جاء به أكفر الناس، ولذا؛ قبله النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان كما في قصة أبي هريرة في زكاة رمضان، حين قال له الشيطان: « إذا قرأت آية الكرسي، لم يزل عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح فقال النبي صلى الله عليه وسلم:« صدقك وهو كذوب »، أي: أخبرك بالصدق في هذه الحادثة، والأصل فيه الكذب، [علقه البخاري (2311) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، و وصله النسائي وغيره. انظر: ” فتح الباري ” (4/488) ] .


فقبول الحق الذي جاء به الشيطان في هذه الواقعة لا يعني جواز طلبه والتماسه منه ابتداء، وهكذا قُلْ في أهل البدع والأهواء، فإن قبول ماجاءوا به من الحق لا يعني جواز التماسه وطلبه منهم ابتداء .
وتتضح صورة المسألة فيما إذا انتقد مبتدعٌ سلفيًّا وخطَّأه في أمرٍ ما، وكان المبتدع مصيبًا في انتقاده في نفس الأمر، فيلزم السلفيَّ والحالة هذه الرجوع عن خطئه، وأخذ الحق الذي جاء به المبتدع، وإن لم يجز له التماسه وطلبه منه ابتداء، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .