كلمة توجيهية الموجهة لمدينة ڨالمة الجزائر بحضور الشيخ أزهر سنيقرة حفظهم الله

الشَّيخ: محمد بن هادي حفظه الله

الملفات الصَّوتية:
الملف الصَّوتي
تحميل
كلمة توجيهية الموجهة لمدينة ڨالمة الجزائر بحضور الشيخ أزهر سنيقرة حفظه الله
التفريغات:
اسم الملف
تحميل

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله، وأصحابه، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإنه ليسرني معشر الإخوة الكرام، والأبناء الأحبة في مدينة قالمة من دولة الجزائر الشقيقة أن نلتقي عبر هذه الوسيلة في هذه الليلة: (ليلة الخميس ليلة السابع (07) من شهر ذي الحجة الحرام عام أربعين وأربعمائة وألف (1440) من هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلّم –)، يسرنا أن نلتقي هذا اللقاء الذي نسأل الله -جل وعلا- أن يجعله مباركا على الجميع ونافعا لنا جميعا، أيها الإخوة في الله، أيها الأحبة الكرام، إن الإنسان في هذه الحياة الدنيا مدته محدودة، وأيامه فيها؛ وساعاته معدودة، وإذا كان الأمر كذلك فيجب على كل من عقل هذه الحقيقة أن يستغل هذه الأيام، والساعات المعدودة، وهذه المدة المحدودة، فيما يعود عليه بالنفع في دينه، ودنياه، وأخراه عند ربه -تبارك وتعالى-، وهذا رغم وضوحه ومعرفته عند النَّاس إلا أنَّ المُوفَّق له قليل، والمُعان عليه كذلك قليل.
أيها الإخوة في الله؛ إننا جميعا في هذه الأيام المباركة بحاجة إلى التزود من أعمال الخير، والبر، والصلاح، مما يقربنا عند ربنا -تبارك وتعالى-، فأول ما أوصي به نفسي وإياكم بمناسبة الوقت هو: اغتنام هذه الأيام، وقد مضى منها ستة أيام، وبقي من العشر أربع ليال، ثلاثة أيام بقيت السابع والثامن والتاسع، ويوم النحر، هذه هي الأربعة، وبقيت لواحقها اللاحقة بها في الخير، والفضل وهي: أيام التشريق، التي هي عيدنا أهل الإسلام مع عيد الأضحى.
فالواجب علينا معشر الأحبة أن ننتهز ما بقي منها فإنه قد صحَّ عن رسول الله أنه قال: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر»، قالوا: «ولا الجهاد في سبيل الله»، فقال : «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء».
أيها الإخوة هذه الأيام أيام مباركة وأيام فاضلة، أيام محرمة في شهر حرام من شهر حرام، فالعاقل والموفق من وفقه الله لاغتنامها، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «العمل الصالح فيها أحب إلى الله»، هذا لفظ عام يعم جميع الأعمال الصالحة: من ذكر لله -تبارك وتعالى- من تسبيح وتحميد، وتهليل، وتكبير، ولهذا يشرع فيها ذكر الله، وحمده، وتكبيره، وتهليله، والصلاة على رسوله ﷺ يشرع فيها ذلك والإكثار منه كما جاء ذلك على عدد من أصحاب رسول الله ﷺ ومنهم كما هو مشهور عند الجميع أبو هريرة، ومنه ابن عمر - رضي الله عنهما – إذ كان يخرجان إلى السوق فيكبران، والقصد من ذلك تذكير الناس لما يرونه فيهم من الغفلة والاشتغال بأمور الدنيا، فإذا كبَّروا تذكَّر الناس فكبَّروا بتكبير أبي هريرة وكبَّروا بتكبير ابن عمر - رضي الله عنهما – والإخبار هنا: «فيكبر الناس بتكبيرهما» ليس المراد به المواطأة والموافقة في الحرف والنبرة والصوت، فصوت هذا على صوت هذا وكلمة هذا على كلمة هذا، وإنما المراد به أنهم يتذكرون فكل يكبر هذا في وسط التكبير، وهذا في آخره، وهذا في أوله، والمقصود أنه يحصل ذكر الله -جل وعلا- وارتفاع الأصوات به.
فتذكير الناس بالخير لك فيه أجر عظيم فإذا كنت قد عملت أنت في نفسك فأنت تحب لإخوانك الخير، انطلاقا من قوله تعالى: {إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ} فهذا من الخير والحق الذي يُتواصَا به، فالشاهد تعمر هذه الأيام بما ذكرنا وتعمر بصلاة النافلة فالنهار أيضا يُصلَّى فيه، كما ثبت ذلك عن رسول الله ﷺ أنه قال: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى»، فيصلي فيها الإنسان ويذكر ربه تبارك وتعالى، فيصلي من الضحى ما شاء الله له أن يصلي، ويذكر ربه -تبارك وتعالى-، ويقرأ القرآن، ويقوم بأعمال البر من غير ذلك كالصيام، فالصيام مندرج في عموم قوله ﷺ: «العمل الصالح»، فينبغي للإنسان أن يحرص على أن يصوم فيها انطلاقا من قوله: «العمل الصالح».
وآكد هذه الأيام صومًا هو يوم عرفة الذي كان النبي ﷺ يصومه ويقول فيه: «أحتسب على الله أن يكفر الله به سنة قبله وسنة بعده»، هذا اليوم العظيم الذي هو أعظم ركن من أركان الحج، وهو الحج كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «الحج عرفة»، فمن وقف عرفة فقد أدرك الحج، ومن فاتته عرفة فقد فاته الحج، والحاصل هذا اليوم العظيم، الذي يتفضل الله تعالى فيه على عباده فيعتق من النار ما لم يكن فيه سواه، ويدنو -سبحانه وتعالى- عباده عشية عرفة، ويباهي بهم أهل الموقف، يباهي بهم الملائكة ويقول: «انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا ضاحين»، ما جزاء هؤلاء؟ ولا رُئِي الشيطان في يوم هو أغيض فيه ولا أدحر ولا أحقر ما يرى في هذا اليوم إلا ما كان من يوم بدر لما يَرَى من تفضل الله -جل وعلا- على عباده في هذا اليوم من العتق من النار، وهذا يسوءه ومن كان يعلم هذا اليوم؛ ويعرف منزلته وعظيم قدره فإنه لا يفرط في الاجتهاد فيه -معشر الأحبة- من الطاعة، من جميع أنواع الطاعات من: ذكر لله، وحمد لله، وتكبير لله، وتهليل لله، وصلاة وسلام على رسول الله ﷺ واستغفار، وابتهال، وتذلل، وخضوع، وتقرب إلى الله -جل وعلا-، وانكسار بين يديه -سبحانه وتعالى-، فإن الله -جل وعلا- يحب أن يرى ذلك من عباده فيتفضل عليهم وهو الغني -سبحانه وتعالى-، هذا اليوم يشرع صومه فإن النبي ﷺ قال فيه ما قال.
وهذه السَّنة سيوافق عندنا يوم السبت؛ ولا بأس بصيامه، وأما حديث النهي عن صوم يوم السبت فهذا حديث منكر اللفظ إسناده فيه مقال، ومتنه منكر -معشر الأحبة-، لأنه قد ثبت في الصحيحين من حديث جويرية - رضي الله عنها – أن النبي ﷺ دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة -نفلا- فقال لها: «أصمت أمس» قالت: لا، وأمس هو الخميس، قال: «أفتصومين غدا»، قالت: لا، وغدا هو السبت، قال: «فأفطري إذا»، وهذا الذي استدل به أهل العلم على إفراد يوم الجمعة بصوم، لأن يوم الجمعة يوم عيد أهل الإسلام فينبغي ألا يصام إلا أن يصام معه قبله يوما أو بعده يوما، أما حديث السبت فهو حديث في إسناده مقال ومتنه منكر مخالف لهذا الحديث وهو في الصحيح، أصح منه وأقوى منه فكيف يقول النبي ﷺ «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم»، واللفظ الآخر: «ولو لم يجد أحدكم إلا لحاء شجرة فليمضغه»، وهنا يقول لجويرية - رضي الله عنها أم المؤمنين- وهي صائمة صوما نفلا: «أتصومين غدا»، غدا هو السبت، قالت لا، قال: «فأفطري إذا»، وهذا صوم نفل وغدا صيامه الذي هو السبت صيام نفل وهذا هو الأصح من حديث: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم» حتى على التسليم هذا اختلف فيه تصحيحا وتضعيفا وهذا متفق عليه عند العلماء في الصحة ولم يضعفه أحد ولم يتكلم عنه، بل هو في أعلى درجات الصحيح -معشر الأحبة-.
والمتن له دوره فإن الحديث لا يكون صحيحا حتى يستجمع الشروط الخمسة المعروفة عند العلماء، فيها يقال إذا استجمع الشروط يقال فيه: حديث صحيح، أما أن يقال إسناده صحيح فلا يلزم من قول العالم في حديث ما إسناده صحيح؛ أن يكون الحديث صحيح، ففرق بين قول العلماء المهرة -العارفين بعلم الحديث والسنة- قولهم هذا حديث صحيح، وقولهم إسناده صحيح، فإن قولهم إسناده صحيح لا يلزم منه الصحة، فإنه قد يكون هناك شذوذ قد يكون هناك نكارة نعم، فالشاهد هذا الحديث حديث مختلف فيه، على أحسن الأحوال فكيف به وهو مع ذلك مخالف لما هو أصح منه، هذا من ناحية.
ومن ناحية ثانية: قد ذهبت طائفة من أهل العلم، وجمع من أهل العلم، إلى أنه منزل على الإفراد أما إن ضم إليه يوم آخر كما جاء في حديث جويرية: «تصومين غدا» يكون مضموما إلى الجمعة فلا بأس بذلك، ويكره حينئذ إفراده فإذا كان الحديث قد اختلف في فهمه وفقهه على هذا النحو وإسناده على ما تقدم لم يكن مثله مما يقاوم به ما هو أصح منه، بل أصح منه بدرجات، فينبغي لنا أن نصوم هذا اليوم -معشر الأحبة- هذا يوم عظيم، يكفر الله -سبحانه وتعالى- به سيئات سنة ماضية وسنة قابلة. فنسأل الله جل وعلا أن يعيننا وإياكم على طاعته.
فالحاصل الصيام في هذه الأيام داخل في عموم قوله: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر»، وفيها هذا اليوم العظيم الذي ذكرنا وهو يوم عرفة وقد كان النبي ﷺ يصومه ولكن لما حج ما صامه -عليه الصلاة والسلام-، فينبغي للحاج أن لا يصومه لأنه يضعفه الصيام ولاسيما في مثل هذه الأيام عندنا في السعودية الجو حار فيجهد الصائمون إن صاموا وهو خلاف السنة، فإنه قد ثبت أن النبي ﷺ وقف يوم حجته يوم الجمعة وهو مفطر وقد تمارى في ذلك بعض أصحاب النبي ﷺ عند أم الفضل بنت الحارث أخت ميمونة بنت الحارث الهلالية أم المؤمنين - رضي الله عنها – أم الفضل هي: أم عبد الله بن عباس وأم الفضل بن عباس، واسمها لبابة بنت الحارث الهلالية فقال بعضهم هو صائم لما يعهدونه من حرصه ﷺ على ذلك، وما يعلمونه من صيامه إلى يوم أن كان بالمدينة ولكنه هذا العام كان حاجا، وقال آخرون هو: مفطر فلما تماروا أرسلت إليه ﷺ بقدح فيه لبن يعني حليب، فاللبن هنا هو الحليب وهذا هو الاسم الأصلي له، من بين فرث ودم لبنا، يخرج من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين، أما ما عند الناس اليوم اللبن هو الحامض هذا غلط، فاللبن هو الحلو، أما الحليب فهو مشتق من الحليب العملية: الحلب، وإلا اسمه الصحيح اللبن، {مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [سورة محمد:15]، كما قال الله -جل وعلا- في أنهار الجنة.
فالشاهد أَرسلت إليه واستخرجت الجواب بهذه الطريقة الحصيفة، ما أرسلت إليه من يقول إليه هل أنت صائم، ولكن لعلمها بمحبته -عليه الصلاة والسلام- للبن أرسلت إليه بقدح من لبن، فرفعه رسول الله ﷺ والناس ينظرون إليه فشرب، فهذا أبلغ جواب وكما قيل -وجاء ذلك الحديث الحسن- «ليس الخبر كالمعاينة»، فشرب النبي ﷺ والناس ينظرون.
فمن حج فلا يشرع له أن يصوم يوم عرفة إلا في حال واحدة: من كان عليه ثلاثة أيام في الحج ممن كان عليه هدي؛ ولا يستطيع أن يهدي؛ وأدركه يوم عرفة وهو صائم، لم يتمكن أن يصوم قبل ذلك فإنه يصومه، وصيامه أحسن من أن يصوم أيام التشريق، وأيام التشريق أيام عيد، عند أهل الإسلام، لكن من لم يستطع أن يصوم قبل العيد فقد جاء فيه حديث عائشة - رضي الله عنها – حيث قالت: «لم يرخص رسول الله ﷺ في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي»، يعني ولم يكن قد صام، فالشاهد -معشر الأحبة- الذي يحج لا يشرع له أن يصوم يوم عرفة في عرفة لما جاء في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما – في سنن أبي داوود وغيره قال: «حججت مع رسول الله ﷺ فلم يصمه وحججت مع أبي بكر - رضي الله عنه – فلم يصمه، وحججت مع عمر - رضي الله عنه – فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا آمر بصيامه»، فالشاهد المشروع لمن كان واقفا بعرفة في هذا اليوم أن يكون مفطرا ليحصل على القوة التي تعينه على الذكر والطاعة والتضرع إلى الله -تبارك وتعالى- والإكثار من ذلك، هذا الذي ينبغي، أما من لم يكن حاجا فيشرع له أن يصوم هذا اليوم لما فيه من الفضل العظيم,
وهو أعظم أيام هذه العشر على خلاف بين أهل العلم فيه وفي يوم النحر -معشر الأحبة-، ويوم النحر لا يجوز صومه لأنه يوم عيد أهل الإسلام، وهو يوم العيد الأكبر.
نسأل الله أن يبلغنا وإياكم هذه المواقف وهذه الأيام الفاضلة.
الشاهد ونعود بعد ذلك إلى حديثنا فنقول هذه الأيام العشر ينبغي أن تستغل في الذكر، والطاعة لله -سبحانه وتعالى- من صدقة، وصلاة، وصيام، ونسك، وإيصال أنواع البر إلى النفس، وإلى الغير.
فالاشتغال بالخير في النفس وفي الغير هذا دأب العقلاء ودأب العلماء ودأب الصالحين ودأب الموفقين، نسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم منهم.
ثم أوصيكم -معشر الأحبة- وصية ثانية ألا وهي: الاعتناء بالعلم، فإن الآن دعوى الطلب ودعوى التعليم كثيرة وطويلة عريضة، ولكن ليس هذا هو المهم، المهم كيف تحصل العلم -معشر الأحبة- إن التحصيل الصحيح لا يكون إلا بالتأصيل الصحيح، ينتشر ولله الحمد -وإن كان في هذه الآونة بدأ يقل ونحمد الله على ذلك- ينتشر بين طلبة العلم التعليم الجزئي (النتف)، نتفة من هذا العلم، ونتفة من هذا الفن، ونتفة من هذا الفن، فتطلع مزع نتف، ويأتيك الفهم المُشوَّه المبني على هذا النحو من التعلم، وذلك بأن لا يُتِم طالب العلم متنا في فنٍّ -وهذه مصيبة عظيمة-، فتفوته أبواب وتفوته كتب في الفن، فيأتي فهمه ناقصا، ويأتي فقهه ناقصا، ويأتي علمه ناقصا، إما أعور وإما أعرج -عافانا الله وإياكم من ذلك-.
فأصبح هذا التعليم على هذا النحو الذي ذكرته لكم وأعيذكم بالله منه، أصبح هذا التعليم نقمة ووبالا على صاحبه يظن أنه قد استجمع العلم وهو الذي يحق له أن يتكلم في العلم، وهو الذي ينبغي أن يُرجع إليه في العلم، وهو الذي يناقش ويناظر أهل العلم، وله الأحقية في ذلك وللأسف، وهو ما عَلِم إلا أبوابا من أبواب العلم، فالتحصيل الصحيح -يا إخوتي، ويا أحبتي، ويا إخواني الكرام- إنما هو في التأصيل الصحيح، وذلك بأن تحفظ في كل فن متنا تأخذه من أوله إلى آخره فتمر على كتبه وأبوابه، وتعلم جميع أنواعه، فحينئذ تكون فيه محققا، هذا هو العلم المحقَّق الذي ينفع صاحبه، أما النتف والاختيارات من هنا ومن هنا، هذا لا يُحصل به صاحبه علما صحيحا على ما كان عليه الأولون -رحمهم الله تعالى-.
فأوصيكم معشر الأحبة بالتحصيل الصحيح المبني على التأصيل الصحيح على هذا النحو الذي ذكرناه، فهنا يكون طالب العلم: طالب علم، وإلا فيكون حينئذ إنما هو مثقف وفرق بين المتعلم على الطريق الصحيح وطالب العلم الصحيح، وبين المثقف -معشر الأحبة.
فالله الله في الاعتناء بهذا الجانب.
والوصية الثالثة التي أوصيكم بها: أن تعلموا حال من تتعلمون عليه، فإنه كما تعلمون جميعا هذا العلم دين، فلينظر أحدنا عمن يأخذ دينه، كما جاء ذلك في أثر ابن سيرين - رضي الله عنه- حينما قال: «إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم»، فلا يؤخذ هذا العلم إلا عن أهله عن الأمناء الذين هم أهل له، الذين عرفوا بذلك، إما بتنصيص أهل العلم المعتبرين على أنهم أهل لأن يعلموا، أو بالاستفاضة وبالشهرة بين الناس وشيوع ذلك بينهم أن هذا من أهل العلم، واعتراف الناس له بذلك، لا ينكرونه عليه ولا ينازعونه فيه، وهذا إنما يكون إثباته بأقواله وأفعاله، وذلك بعرض أقواله على أقوال أهل العلم، فإن كانت كأقوالهم وموافقة لأقوالهم وماشي على الجادة على طريقهم في أقوالهم فإنه حينئذ كذلك، وإلا فلا.
ونحن اليوم نسمع الفراريج يريدون أن يشهدوا للشيوخ وللأسف، ويزكونهم وهذا والله من أعجب العجب، وهذا من الانتكاس فإن الشهادة إنما تكون من المثل أو الأعلى هي المعتبرة، أما فروج يشهد لِدِيك هذا عجب عجاب، في هذا الزمان سمعناه، حتى أصبحوا يطلقون لفظ الأئمة على من ليس عنده شيء من العلم، يطلقون عليه إماما، هذا لو جئت إلى العالم لنازعك في إطلاق لفظ الإمامة عليه كثير من الناس، ولفظ العلامة كذلك أصبحت من أمهن ما يكون، ألفاظا ممتهنة بسبب هؤلاء الفراريج الذين ظهروا علينا في هذا الزمان، لا كثرهم الله -يا معشر الإخوة-.
فهؤلاء الذين ابتلينا بهم في هذه الأيام وابتلي أهل السنة في هذه الأيام صار منهم هذا البلاء -نسأل الله العافية والسلامة-.
والحاصل أن العلم إنما يؤخذ عن أهله، وإنما يتلقى عن أهله فهكذا كان أسلافنا الصالحون رحمهم الله تعالى، وكانوا إذا جاءوا يأخذوا عن الرجل نظروا إلى صلاته، ونظروا إلى هديه، ونظروا إلى سمته، فإن كان على السنة أخذوا عنه، وإلا لم يأخذوا عنه، كما جاء ذلك عن أسلافنا - رضي الله عنهم –، ورأينا اليوم في هذا اليوم عجبا عجابا حيث أصبح البغاث نسرا، وأصبحت الصقور بغاثا عند هؤلاء الذين بلينا بهم هذه الأيام -نسأل الله العافية والسلامة-، فمن عُرف واشتهرت بين الناس منزلته وشاعت بين الناس علميته وشَهد له بذلك فمثل هؤلاء لا يُلتَفَت إلى أقوال من تكلم فيهم، ولا ينظر إليهم، ولا يتلقى قولهم بالقبول فمن ذلك ومن أكذب الكذب الذي سمعناه -أضربه لكم مثالا واحدا والمثال يحتذى في جميع الأبواب- يقولون عن الشيخ فركوس عندكم مثلا -بعض هؤلاء الجهلة يقولون- إنه مع الصوفية، هذا والله من أعجب العجب، فمقالات هذا الشيخ الجليل وكتاباته -من أعجب العجب- صريحة في الرد على هؤلاء الضلال، ويفترى عليه ويكذب عليه ويقال فيه إنه يوالي الصوفية أو مع الصوفية -نسأل الله العافية والسلامة-، وأين ذهبت كتاباته وأين ذهبت مواقفه، بل من آخر ما قرأته له وكتب الله يوما من الأيام أن وفق -جل وعلا- أن أعطاني أحد أبنائي من الجزائر عددا من أعداد المجلة التي يصدر فيها الشيخ فركوس كتاباته -وفقه الله وجزاه خيرا- وإذا أنا على باب المسجد فأفتح هكذا توفيقا من الله وإذا بيدي تقع على المقال الذي كتبه في هذا الباب توفيقا من الله، جناية التصوف على الإسلام وعلى عقيدة أهل السنة، أو على العقيدة السلفية، نسيت العنوان الآن، ويقال بعد ذلك إن هذا موال للصوفية، فهذا من أعجب العجب -معشر الأحبة- إذ ندع ما نرى ونأخذ عن الكذبة بما يروى هذا والله من أعجب العجب، هذا إلغاء للعقول -معشر الأحبة-.
فأوصيكم ونفسي معشر الأحبة بـ: طلب الدلائلوهذه هي الوصية الرابعة، «فإن الحق يعرف بصحة الدلائل لا بمنزلة القائل»، وإذا نحن طبقنا هذه القاعدة فإننا سنحصل على فوائد عظيمة منها:
- أولا اتباع الحق، فإن الحق أحق أن يتبع،
فالعلم معرفة الهدى بدليله***ما ذاك والتقليد يستويان
فأنت إذا قام الدليل عندكم أخذت بالدليل فمنها تعظيم الحق.
- واتباع الدليل.
- وثالثا كسر التقليد.
- ورابعا كسر التقديس.
- وخامسا الشجاعة في قول الحق واتباع الحق وقبول الحق.
- وسادسا الرد على من كذب وافترى والرد على كل مبطل في هذا.
فمعرفة الدليل واتباعه هذا الذي تربينا عليه وربَّانا عليه آباؤنا وأشياخنا، وأشياخنا ربَّوهم عليه أشياخهم من قبل حتى نقلوه إلينا -جزاهم الله عنا خيرا-.
فيعرف حينئذ الحق بالدلائل لا بعظمة القائل، لأنه قد استقر عند أهل السنة جميعا: «ما منا إلا راد ومردود عليه إلا رسول الله ﷺ» كما قال الإمام مالك هذه المقالة المشهورة، فما من أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ والسلفيون نشأوا على ذلك ورُبُّوا على ذلك، هذه هي التربية العلمية الصحيحة، فإن التقليد ليس طريقهم، «عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يتركون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان»، رأي سفيان ومالك والأوزاعي، يقول الإمام أحمد، «كله عندي رأي وهو عندي سواء» إنما الحجة في الآثار معشر الأحبة، هكذا يقول الإمام أحمد أما أن تريدون صوفية جديدة ملبسة بلباس الصوفية، فطالب العلم مع شيخه يختلف، حتى وإن كان شيخه يختلف معه في المسائل إلا فهما آتاه عبدا في كتابه، يقول علي - رضي الله عنه – حينما سئل: هل خصكم رسول الله ﷺ بشيء قال - رضي الله عنه –: «لا، لم يخصنا رسول الله ﷺ إلا فهما آتاه الله عبدا في كتابه، أو ما في هذه الصحيفة»، قال: «العقل وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر، والمدينة حرم من كذا إلى كذا».
فالشاهد هؤلاء لا يريدون لك طريق أهل العلم وطريق أهل الفضل وطريق أهل الفقه، وطريق أهل الأثر، وإنما يريدون لك طريقة الطرقية الصوفية، لا تعترض فتنطرد، هذا غير صحيح ما منا إلا راد ومردود عليه، فأنت تختلف مع أخيك مع زميلك في العلم، مع أستاذك في العلم وأنت وإياه سواء، أما مجرد أن تختلف فيقول أنت تطعن فيه؛ هذا كلام من لا يعقل، وإذا كان لا يعقل فأنت لا ترد عليه، يقول الإمام أحمد - رضي الله عنه –: «ما عبر إلينا هذا الجسر أحد أنبل من إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء فالاختلاف وارد بين أهل العلم»، ومعروف ومبسوط في كتب أهل العلم، ولله الحمد.
فالحاصل -معشر الأحبة- أن الاختلاف فيما يجوز ويصوغ فيه الاختلاف هذا باب معروف عند أهل العلم، ولا يعترض عليه إلا الجهلة، فمن تعظيم الدليل يظهر الصادق ويظهر الناصح لنفسه، ولإخوانه المسلمين بحثهم على الاتباع وتحذيرهم من التقليد، فإن هذه الطريق طريق من لا يحسب على أهل العلم، وقد أجمع العلماء على أن المقلد ليس بطالب علم، كما ذكر ذلك ابن عبد البر وغيره رحمهم، فإذا لم يكن المقلد ليس بطالب علم فما عسى أن يكون إذا كان طالب علم لا يحسب طالب علم فما عسى أن يكون؟! فالتقليد -معشر الأحبة- مذموم وذمه سلفنا الصالح - رضي الله عنهم – إلا في حالات نصَّ عليها أهل العلم ليس هذا موضعها.
والشاهد -معشر الأحبة- تعظيم الدليل كما قلت لكم ومعرفة الحق بالدلائل لا بعظمة القائل، يفيدنا هذه الأمور فأوصيكم معشر الأحبة بذلك كله.
والوصية السادسة هي: أوصيكم -معشر الأحبة- بأمرين يجب علينا أن نعتني بهما وأن نقدمهما على كل شيء وهو: الاعتناء بتوحيد الله جل وعلا تعلما وتحقيقا وتعليما للناس، تعلَّموا ذلك، تعلَّموه على وجه التعلم الصحيح، على وجه التحقيق حتى لا يغيب عنكم من أجزائه ومسائله شيء، فالله الله معشر الأحبة في الاعتناء بهذا، فإن التوحيد هو أساس قبول الأعمال، فإن الله -جل وعلا- لا يقبل الأعمال إلا به، وبالإخلاص له سبحانه تعالى{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [سورة الكهف:110]، والله -سبحانه وتعالى- إنما خلقنا في هذه الحياة الدنيا لعبادته، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} [سورة الذاريات:56]، ومعنى يعبدون: يوحدون؛ في أصح التفسيرات -معشر الأحبة-، كما قال ذلك عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما – وغيره من أهل العلم - رحمهم الله –.
فالاعتناء بالتوحيد بأقسامه وأنواعه وتحقيقه ثم الاعتناء بتعليمه ونشره بين الناس هذا أوجب ما يجب علينا -معشر الأحبة-، فإن حق الله الأعظم على العباد هو هذا، حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحقه -سبحانه وتعالى- مقدَّم، فيجب الاعتناء به كما قال -جل وعلا:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين(65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِين (66)} [سورة الزمر]، وقال عن أعدائه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون (67)} [سورة الزمر]، فيقول -سبحانه وتعالى- في هذا في آيات كثيرة ليس هذا موضع سردها، {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار} [سورة المائدة:72]، {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا(48)} [سورة النساء]، {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا(116)} [سورة النساء].
فالاعتناء -معشر الأحبة- بهذا تعلما وتعليما هذا أهم ما يجب علينا -معشر الأحبة-، والناس بحاجة إلى تعليمهم ذلك ونشره بينهم وإذا رأيت الرجل يفتر عن ذكر التوحيد والدعوة إليه والحث على تعلمه وتعليمه ونشره بين الناس فهذا لضعف في إيمانه، فالواجب علينا أن نعتني بهذا -معشر الأحبة- نعتني به غاية العناية، فإنه هو الأصل الأصيل الذي لا تقبل الأعمال إلا به، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [سورة الفرقان:23]، يقوله الله -سبحانه وتعالى- في المشركين والذين كفروا بربهم -تبارك وتعالى-، كما أخبر عنهم أن: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيد} [سورة إبراهيم:18]، ذهبت كل الأعمال الصالحة لأن الأصل ذاهب -نسأل الله العافية والسلامة-.
فيجب علينا معشر الأحبة أن نعتني بهذا الأصل اعتناء كما يليق وكما ينبغي فاعتنوا به وقدموه على كل الأقوال والأعمال لأنه أصل قبول الأعمال،
شرط قبول السعي أن يجتمعا *** فيه إصابة وإخلاص مع
{وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة (5)} [سورة البينة]. فالله الله، -معشر الأحبة-.
كما أختم وصيتي لكم -معشر الأحبة- بـ: احترام أهل العلم، وهي الوصية السابعة، احترام أهل العلم، وتوقيرهم وإجلالهم ومعرفة منزلتهم التي أنزلهم الله فيها -سبحانه وتعالى-، فهم خلفاء رسول الله ﷺ، فإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما فإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر، فيجب -معشر الأحبة- علينا جميعا أن نحترم أهل العلم، وأن نقدر أهل العلم وأن نعرف معنى هذه الكلمة، معنى الاحترام حقيقة، فالاحترام لأهل العلم تبجيلهم وتوقيرهم وإجلالهم وعدم النيل منهم ويذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بغير ذلك فهو على غير السبيل، وأما مخالفتهم أو الرد عليهم بالدليل فيما أخطأوا فيه فليس هو تنقصا لهم، ولا طعنا لهم، فلم يزل أهل الإسلام من صدر الإسلام إلى يوم الناس هذا وهم يردون على بعض في المسائل التي يختلفون فيها.
فهذا حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عم رسول الله ﷺ ولا يزال شابا في صغره يقول: «يوشك أن تمطر عليكم السماء حجارة أقول لكم قال رسول الله ﷺ وتقولون قال أبو بكر وعمر»، ومن هو أبو بكر وعمر، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بإجماع الأمة أن أبا بكر وعمر أفضل من ابن عباس، متى قال هذا الكلام؟ قاله في أول شبابه - رضي الله عنه – وما الذي جعله بهذه القوة؟ الدليل، «أقول لكم قال رسول الله ﷺ وتقولون قال أبو بكر وعمر»، فتقديم قول غير رسول الله ﷺ على قوله هذا مما ينكر، وإن كان قول أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما – لأنهما هما ينكران ذلك - رضي الله عنهما –، فالنبي ﷺ قد جعلهما في هذا الباب بعد قوله قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين»، فسنة الخلفاء الراشدين فيما لا يوجد فيه سنة عن رسول الله ﷺ فهم أصحاب سنة متبعة مأمور باتباعهم على لسان رسول الله ﷺ، فالرد على أهل العلم لم يزل سنة ماضية منذ القدم من صدر الإسلام، ما منا إلا راد ومردود عليه، ولكن فرق بين الرد بالعلم وإظهار الدلالة وفرق بين السفاهة والجهالة، نسأل الله العافية والسلامة.
فالله الله -معشر الأحبة- في ذلك، فاعرفوا لأهل العلم حقهم، وقدرهم، ومنزلتهم.
ثم أختم الوصية بآخر وصية وهي: الرفق بإخوانكم واللين لهم والرحمة بهم واللطف معهم وإظهار الشفقة عليهم، فإنكم إن فعلتم ذلك وفقكم الله جل وعلا لنشر ما عندكم من الخير والفضل والعلم والهدى والنور، وفقكم الله لنشره، وذلك لأن القلوب قد جبلت لحب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها، فما دام العبد يتلطف بالناس ويظهر لهم الشفقة والرفق والحرص على هدايتهم، والحرص على الألفة معهم، والحرص على إيصال الخير إليهم بكل سبيل متاح ممكن، فإن الناس لا شك أنهم يحبون من كانت هذه حاله، وأما من استعلى عليهم وكان فضا غليظا أو جافيا فإن النفوس تنفر منه، ولهذا قال الله في حق رسوله ممتنا عليه بذلك: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} [سورة آل عمران:159]، فرتب الله الأمور في هذه الآية من أخفها إلى أقواها:
- فأول شيء: العفو عنهم إذا أخطأوا فاعف عنهم.
- الثانية أعلى منها: وهي أن تستغفر له، فيظهر له أنك لا تحمل عليه، ولا تحقد عليه، ولا أنت تظهر له شرا، بل وصلت إلى الاستغفار له.
- والثالثة وهي أعلى وأعلى من السابقتين وهي: تقريبه وإدناؤه منك، وجعله كالخليل المصافى، تستشيره في الأمر، فإنك لا تستشير إلا من تحب وتثق.
فأنت إذا أنزلته هذه المنزلة ذهب كل ما يجده في قلبه من الوساوس لا يمكن أن يستشيرني من يظن بي سوءا، لا يمكن أن يستشيرني من يراني في هذه المنزلة كيت وكيت، فإنه إذا رأى منك ذلك أقبل عليك بكله، وإذا أقبل عليك بكله أحبك، وإذا أحبك احترمك وقبل قولك.
فالله الله -معشر الأحبة- كونوا رفقاء ورحماء وأظهروا للناس ذلك وادعوهم إلى المحبة والألفة والتآخي في ذات الله -تبارك وتعالى- فإن الله -سبحانه وتعالى- يأجركم على ذلك وترون أثر انتشار الدعوة هذه السلفية المباركة في الناس، فأهلها أحق بهذا الذي ذكرته، أحق به من غيرهم، أسأل الله -سبحانه وتعالى- لي ولكم الفقه في الدين، والبصيرة فيه والثبات على الحق والهدى حتى نلقاه، كما أسأله -سبحانه وتعالى- أن يعيذنا وإياكم جميعا وجميع إخواننا المسلمين من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يتم علينا هذه العشر بخير، وأن يعيننا وإياكم على اغتنام مواسم الطاعات في الأعمال الصالحات، كما أسأله -سبحانه وتعالى- أن يصلح أحوال المسلمين جميعا في كل مكان، حكاما ومحكومين، إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان، والحمد لله رب العالمين.
نسأل الله أن يبارك في الجميع
الشيخ أزهر : بارك الله فيكم شيخنا، وجزاكم الله خير الجزاء، هل تسمحون شيخنا بسؤال أو اثنين؟
الشيخ محمد:لا بأس في حول المحاضرة فقط.
الشيخ أزهر:طيب.
الشيخ محمد:نعم.
الشيخ أزهر:أولا، تعليق للشيخ عبد الرحمن محي الدين على ما قلتم دفاعا عن شيخنا الشيخ فركوس -حفظه الله جل وعلا- فقال جزاه الله خيرا ووفقه: «وهل الصوفية يقبلونه ويسمعون له، هو يدعوهم للتوحيد الخالص والمنهج الصحيح منهج السلف هل يقبل الصوفية منه ما يدعوهم إليه جزاه الله خيرا».
الشيخ محمد:هذه من الافتراءات والافتراءات يأجر الله -سبحانه وتعالى- بها من افتُرِي عليه وقيل فيه ما لا يجوز أن يقال، هذا مما يعظم الله به الأجر، وأخونا أبو عبد المعز نسأل الله -جل وعلا- أن يعظم له الأجر في ذلك وهكذا جميع إخواننا، ممن يقال فيهم ما ليس فيهم وهو ظلم وبهتان لهم، آمين، جزاكم الله خيرا.
الشيخ أزهر: آمين جزاكم الله خيرا شيخنا، أما السؤال المتعلق بشبهة القوم التي يطرحونها ويدندنون حولها هذه الأيام ألا وهي شيخنا: «نحن مع الكبار» فلولا وضحتم لأبنائكم معنى هذه المقولة، ومن الكبار في هذا الزمان الذين يرجع إليهم، ويستفتون في قضايا الأمة؟ بارك الله فيك.
الشيخ محمد: الحمد لله أظن ألمحت إلى الإجابة في كلامي، نحن مع الحق، ندور معه حيث دار والنبي ﷺ قال: «البركة مع أكابركم» ولم يقل الحق مع الأكابر، إنما قال البركة مع الأكابر -صلوات الله وسلامه عليه-، والتماس العلم إنما يكون عند الأكابر ويؤخذ عنهم، فلا يذهب إلى من دونهم وهم أحياء لأن هذا من طلب العلو في دين الله -تبارك وتعالى-، ابن مسعود هو القائل: «البركة مع أكابركم»، نعم، أنا نسيت البركة مع أكابركم قول ابن مسعود - رضي الله عنه – الشاهد إنما قال البركة مع الأكابر، ولم يقل الحق مع الأكابر، فإن الحق مع الدليل دائما، فيما أشرت إليه قبل قليل من قصة عبد الله بن عبَّاس - رضي الله عنهما – مع من كان يناظره في مسألة التمتع في الحج، وقوله: «أقول لكم قال رسول الله ﷺ تقولون: قال أبو بكر وعمر»، هذا أظهر دليل في الرد على هذه المقولة، العالم الكبير له منزلته وله مكانته وله احترامه وله توقيره ونعتقد أن الصواب في جانبه أكثر، وليس معنى ذلك أنه معصوم، فقد يخطي ولا يكون الصواب معه، يكون الصواب مع من هو أصغر منه من تلميذه أو نحو ذلك، بل أحيانا يكون تلميذ تلميذه، كما سمعنا: «أقول لكم قال رسول الله ﷺ تقولون: قال أبو بكر وعمر».
فهذه القضية، نحن نعرف للأكابر حقهم ولكن من هو الذي يقول هذا من الأكابر وهذا ما هو من الأكابر؟ هنا المسألة، هنا بيت القصيد، نحن نرى الآن جهلة يطلقون هذا، ورأيناهم يتناقبون في هذا، فإذا كان العالم جاءت فتواه اليوم على ما يحبون فهو من الأكابر ولو كان صغيرا في السن، وإذا لم تأتي على ما يحبون فهو من غير الأكابر، وإذا جاء القول من الكبير -الذي هم بالأمس يقولون كبير في السن ومن الأكابر- إذا جاءت الفتوى منه كما يحبون قالوا هو من الأكابر، وإذا جاءت الفتوى منه على غير ما يحبون قالوا يخالف الأكابر، فإذا من هم الأكابر هنا؟ وهذا من أعظم حجج الله الباهرة الظاهرة حيث يجعل أصحاب الكذب والباطل متناقضين يراهم حتى الأعمى، وإذا قلنا يراهم حتى الأعمى نحتاج إلى أن نشرحها لأن هؤلاء لا يفهمون ذلك، يراهم الأعمى بعين بصيرته ولو ذهبت عينه الباصرة فبصيرته تبصر ما عند هؤلاء.
فالشاهد الأكابر هم أهل السنة وهم كبار علماء السنة وأنا أقصد هذين اللفظين، وقد تكلم على ذلك أهل العلم عند قول النبي ﷺ: «إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر»، فالأصاغر قد تكلم فيهم أهل العلم، وبينوا أنهم أهل البدع، وذهب آخرون من أهل العلم إلى أنهم أيضا الصغار في السن.
وعلى كل حال العلماء الذين يرجع إليهم ويستفتون ما هو أنا الذي أبينهم فالناس يعرفونهم، فإن القمر لا يحتاج أن يقام عليه شاهد، والشمس لا يحتاج أن يقام عليها شاهد وكل أحد لها يشاهد، فهذا من العجز بمكان إذ تحتاج إلى توضيح الواضحات، وبيان البينات، على كل حال أعود فأقول: «البركة مع الأكابر» وليس الحق دائما مع الأكابر، قال مالك: «ما منا إلا راد ومردود عليه إلا رسول الله ﷺ» ونحن نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين والبصيرة فيه إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
الشيخ أزهر:جزاك الله خيرا شيخنا وبارك الله فيك على هذه التوجيهات السديدة والنصائح المفيدة، نسأل الله عز وجل أن يثقل بها موازينك يوم القيامة إنه جواد كريم.
الشيخ محمد:آمين وإياكم ونسأل الله -جل وعلا- أن يجمعنا وإياكم في هذه الدنيا على طاعته وفي الآخرة في دار كرامته أن يجنبنا وإياكم الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطن.
الشيخ أزهر:آمين، بارك الله فيك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ محمد:حياكم الله شيخ أزهر، وحيا الله الإخوان جميعا والأبناء والأحبة عندكم جميعا وفي كل مكان في الجزائر وفي كل مكان.
الشيخ أزهر:يبلغونكم السلام جميعا شيخنا بارك الله فيك.
الشيخ محمد:وعليك وعليهم جميعا السلام ورحمة الله وبركاته في أمان الله.
أهلا وسهلا ومرحبا بكم حياكم الله.
[انقطعت المكالمة وأعيد الاتصال بالشيخ محمد -حفظه الله-]
الشيخ محمد:أنتم لازلتم في مجلسكم أم فضضتم؟
الشيخ أزهر:(لم يسجل....)
الشيخ محمد:وفقنا الله وإياكم، أقول ذكر لي بعض الإخوة أن الحديث أيضا جاء مرفوعا إلى رسول الله ﷺ ويحتاج إلى نظر، ويذكر أن الشيخ ناصر - رحمه الله – صححه، فأحببت فقط أن أضيف هذا.
الشيخ أزهر:(لم يسجل....)
الشيخ محمد:البركة مع أكابركم، لا الذي أنا أعرفه أيضا عكس ما أنت تقول، ولا بأس يحتاج إلى نظر، الذي أحفظه حفظكم الله أنه عن ابن مسعود صحيح موقوفا.
الشيخ أزهر:(لم يسجل....)
الشيخ محمد:وعلى كل حال الشيخ ناصر ذكر لي بعض أبنائنا الذين هم عندي أن الشيخ - رحمه الله – صححه مرفوعا من حديث ابن عباس - رضي الله عنه – ويحتاج إلى أن ينظر ويراجع.
الشيخ أزهر:(لم يسجل....)
الشيخ محمد:لا، بلغهم أيضا أنه جاء مرفوعا وصححه الشيخ ناصر، ويحتاج أن نراجع إسناده.
الشيخ أزهر:(لم يسجل....)
الشيخ محمد:نعم، لا بأس، لا بأس، ولعله إن شاء الله يكون مع التسجيل هذا وهذا.

فرغها:
وسيم بن أحمد قاسيمي
-عفا الله عنه-
صبيحة الأحد: 17 ذي الحجة 1440هـ
الموافق لـ 18 أوت 2019 نصراني.