المسارعة في الخيرات

المُؤلف: الشيخ عبد الرزاق البدر حفظه الله
الملفات الصَّوتية:
اسم الملف الملف الصَّوتي تحميل
المسارعة في الخيرات تحميل
إنَّ الحمد لله ؛ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا ، من يهدِه الله فلا مضلَّ له , ومن يُضلِل فلا هادي له , وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريك له , وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسوله ، وصفيُّه وخليه ، وأمينه على وحيه ، ومبلِّغ الناس شرعه ، ما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه ، ولا شرًا إلا حذَّرها منه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أمَّا بعدُ أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله ؛ فإن من اتقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه . وتقوى الله جلَّ وعلا : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله. أيها المؤمنون : في القرآن الكريم آياتٌ عديدة تشتمل على الحث على المسارعة إلى الخيرات ، والمسابقة إلى الطاعات ، والتنافس في العبادات ، وعدم تفويت فرصة العمر الثمينة وأوقات الحياة العظيمة ، وأن الواجب على المسلم أن يكون سبَّاقًا مسارِعًا منافسًا ، لا أن يكون متقاعسًا متباطئًا متكاسلا ؛ يقول الله عز وجل : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: 133] ، ويقول جل وعلا: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الحديد:21] ، وقال جلَّ وعلا عن الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}[الأنبياء:90] ، وقال جل وعلا عن المؤمنين الكمَّل: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}[المؤمنون:61] ، ويقول جل وعلا: {وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[المطففين:26] ويقول جل وعلا: {فَاسْتَبقُوا الْخَيْرَاتِ}[البقرة:148] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة . عباد الله: ومن يتأمل هذه الآيات يستبين من خلالها أن هذه الحياة الدنيا ميدان سباق ومضمار منافسة ، وأن السبَّاقون من عباد الله عز وجل هم المسارعون إلى الطاعات المبادرون إلى العبادات ، لا تسويف ولا كسل ، ولا تواني ولا تباطؤ . أيها المؤمنون : عمر الإنسان وصحته وعافيته فرصة ثمينة ليكون من المسابقين المسارعين ، ومن الخسران العظيم تفويت فرصة العمر من أن تُستغل في الخير والغنيمة ؛ روى الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه: ((اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وغناك قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ)) ؛ فاغتنام هذه الفرص -يا معاشر العباد- هو مطلب الكمَّل من عباد الله ، وأما من لا يدرك قيمة الحياة فإنه يضيَّع فرصة الشباب وفرصة القوة وفرصة الصحة والغنى ، فيضيُّعها في غير الطاعة ، بل يمضيها في الإهمال والإضاعة . روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : قَامَ حُذَيْفَةُ بن اليمان بِالْمَدَائِنِ فَخَطَبَ الناس فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}[القمر:1] ثم قال: «أَلَا إِنَّ السَّاعَةَ قَدِ اقْتَرَبَتْ، وَإِنَّ الْقَمَرَ قَدِ انْشَقَّ، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَذِنَتْ بِالْفِرَاقِ، أَلَّا وَإِنَّ الْمِضْمَارَ الْيَوْمُ، وَإِنَّ السِّبَاقَ غَدًا -أي يوم القيامة- ،  وَإِنَّ السَّابِقَ مَنْ سَبَقَ إِلَى الْجَنَّةِ» . أيها المؤمنون : وفُرَص المواسم العظيمة في هذه الحياة الدنيا مغنمٌ لعباد الله الصالحين وأوليائه المقربين ؛ فإنهم يعدُّون لها عدتها ويعرفون لها قدرها ومكانتها وقيمتها ، وها هي -عباد الله- أيام وليالي خير الشهور قد آذنت بدخول ، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ)) ؛ ألا ما أعظمها من أيام ، وما أجلَّها من ليال ، ينبغي على عبد الله المؤمن أن يكون حسَن الاستقبال لها ، حسَن التهيؤ والاستعداد ، مسارعًا إلى الخيرات، منافسًا في الطاعات ، مسابقًا إلى العبادات . نسأل الله جل وعلا أن يبلغنا أجمعين رمضان ، وأن يغنِّمنا خيراته وبركاته العظام ، وأن يعيننا فيه على التنافس في الطاعات والمسابقة إلى العبادات ، وأن يعيذنا أجمعين من العجز والكسل إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .   الخطبة الثانية : الحمد لله كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ، وراقبوه في السر والعلانية والغيب والشهادة مراقبة من يعلمُ أنَّ ربَّه يسمعُه ويراه . أيها المؤمنون : إن عمر الإنسان مهما طال وامتد فهو قصير ، والموت -أيها العباد- يأتي بغتة ، ولا تدري نفسٌ ماذا تكسب غدا ، ولئن كانت الأيام الشريفة الفاضلة تدنو من العباد فقد يُحال بين المرء وبينها ؛ فعلى العبد المؤمن إذا أصبح أن لا ينتظر المساء ، وإذا أمسى أن لا ينتظر الصباح ، وأن يأخذ من صحته لمرضه ، ومن شبابه لهرمه ، ومن حياته لموته ، وأن يتقي الله جل في علاه ليكون سالمـًا غانمًا يوم يلقى الله جل وعلا . قال علي رضي الله عنه : «ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ اليَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلاَ عَمَلٌ» . واعلموا -رعاكم الله- أنَّ أصدق الحديث كلامُ الله ، وخير الهدى هُدى محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكلَّ محدثةٍ بدعة ، وكلَّ بدعةٍ ضلالة ، وعليكم بالجماعة فإنَّ يد الله على الجماعة . وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمَّد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا )) . اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد . وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين ؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين . اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم كُن لهم ناصرًا ومعينا وحافظًا ومؤيدا ، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين ، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك ، وأعنه على طاعتك ، وسدده في أقواله وأعماله يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام . اللهم آتِ نفوسنا تقواها ، زكِّها أنت خير من زكاها ، أنت وليُّها ومولاها ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .   المصدر : موقع الشيح عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر -حفظه الله-