الثبات على طاعة الله بعد رمضان

المؤلف: الشيخ صالح الفوزان حفظه الله
الملف الصَّوتي تحميل
تحميل

الحمد لله رب العالمين أمر بالاستمرار على الطاعات حتى الممات، وأشهد أن لا له إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألهيته وما له من الأسماء و الصفات، وأشهد أن محمدا عبده رسوله كانت كل حياته طاعات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ذو المناقب والكرامات، وسلم تسليماً كثيرا،  أما بعد:

أيُّها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أنه إن كان انتهاء شهر رمضان فإن عمل المسلم لا ينتهِي إلا بالموت قال الله جلَّ وعلا (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) يعني: حتى يأتيك الموت، قال صلى الله عليه وسلم: إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ ، فالعمل إنما ينقطع بالموت ولا ينقطع بانتهاء شهر رمضان أو غيره فليواصل المسلم  الأعمال الصالحة في حياته، وحياة الإنسان قصيرة فليغتنمها في طاعة الله سبحانه وتعالى لتتصل له الحياة في الدار الآخرة الحياة الأبدية قال سبحانه وتعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) يعني: غير مقطوع.

فالمسلم يواصل العمل في طاعة الله عز وجل مادام على قيد الحياة مادامت روحه في جسده، ولا يظن أن العمل ينتهي بانتهاء موسم معين أو وقت معين ثم يعود إلى الكسل والخمول، أبواب الله مفتوحة في الليل والنهار، فالله جل وعلا يده سحاء الليل والنهار، يَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ ويَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ ، يَنْزِلُ إِلَى سَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، فَيَقُولُ سبحانه: هَلْ مِنْ سائل فأعطيه؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَاسْتَجِيبَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ لا في شهر رمضان فقط إنما شهر رمضان موسم خير وزيادة في الطاعة لكنه ليس هو نهاية العمل.

فلنواصل يا عباد الله، نواصل العبادات والطاعات خصوصاً الفرائض، فرائض الصلوات وغيرها ثم بعدها النوافل. فالله جل وعلا شرع لنا الفرائض وشرع لنا النوافل لنداوم عليها: (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) وليس يصلون في وقت دون وقت وإنما هم دائمون محافظون على صلواتهم في كل حياتهم هذا شأن المسلم أنه يؤدي الفرائض ويأتي بعدها بما تيسر من النوافل ويستمر على ذلك، ويحمد الله أن مدد له العمر والحياة، والعبرة ليست بطول العمر وإن بلغ مئات السنيين إنما العبرة بما يقضى في العمر وما يحصل في العمر من خير أو شر، فالعمر وإن كان قصيراً إذا كان في طاعة الله فهو طويل، وإن كان طويلاً وهو في معصية الله فإنه قصير ولا بركة فيه ولا خير فيه.

اتقوا الله يا عباد الله، وحافظوا على الطاعات، اجعلوا لكم حظاً من الصيام المستحب، وحظاً من القيام قيام الليل ولو كان قليلاً، اجعلوا لكم حظاً من الصدقات، اجعلوا لكم حظاً من الأعمال الصالحة في كل مجال، فإن الله سبحانه وتعالى قد مكنكم من ذلك وأمدكم ولن تطول المدة، ولن يطول الإمهال فإن الحياة محدودة والأيام معدودة، والموت قريب، والآخرة قادمة فكونوا على استعداد دائماً وأبدا، وداوموا على طاعة الله عز وجل، وابتعدوا عن معصية الله، نعم قدم يحصل من المسلم تقصير أو غفلة، أو يحصل من المسلم خطاء؛ لكن الله برحمته وفضله فتح بابه للتأبين ودعاكم للتوبة، ووعدكم أن يستجيب لكم لعلمه سبحانه أن الإنسان محل للخطاء ومحل للتقصير فالله تفضل عليه بالتوبة ودعاه إليها، ووعده أن يستجيب له إذا تاب إليه، وعده أن يستجيب له إذا دعاه، وعده أن يقرب منه إذا تقرب إليه، فالله جل وعلا مع المتقين ومع المؤمنين في كل زمان وفي كل مكان: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) معيةً خاصة بالإعانة والتوفيق والهداية والتسديد فهو مع عباده المؤمنين خاصة كما أنه مع الناس عامة للإحاطة بهم وإحصاء أعمالهم خيراً أو شراً، فدائماً راقبوا الله سبحانه وتعالى قال صلى الله عليه وسلم: الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ فأنت تعبد الله على المشاهدة هذا إذا قوي الإيمان أو المراقبة إذا ضعف الإيمان، راقب الله سبحانه وتعالى واعلم أنه يراك أينما كانت: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)، لا تخفون عليه، فاستحيوا من الله عز وجل غاية الحياء، وتوبوا إليه عما قريب إذا حصل منكم خطأ: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً* وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً).

فاتقوا الله، عباد الله، وداوموا على فعل الطاعات وترك المحرمات، واعلموا أن أيامكم معدودة وأن آجالكم مقدرة فلا تذهب عليكم حسرات وتكون عليكم حسرةً يوم القيامة، إذا بلغت الروح الحلقوم حينئذ يحال بين المسلم وبين التوبة ولا تقبل منه توبة لأن وقت التوبة انتهى، إنما كانت التوبة يوم أن كان الإنسان متمكناً من العمل فإذا انتهى عمله فإنه لا تقبل توبته عند الموت، تصوروا الموت في كل لحظة لأن أحدا لا يدري في أي لحظة يموت فهو متوقع أن يموت على فرشه، أن يموت على سيارته، أن يموت على طعامه، أن يموت في أي مكان: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)، فالموت إذا جاء لن يرد والتوبة إذا كانت عند الموت لن تقبل.

فتصور هذا  يا عباد الله دائماً وأبدا حال السلف الصالح أنهم يجتهدون دائماً وأبدا لا يفرطون في شيء من أوقاتهم قال بعضهم: أدركت أقواما لا يزيد دخول شهر رمضان في اجتهادهم شيئاً ولا ينقص خروجه من اجتهادهم شيئا، فهم مجتهدون في الطاعة في كل حياتهم فهم دائماً مع الله، أما من يجتهد في وقت ثم يقطع إذا خرج هذا الوقت أو انتهى فهذا يقطع الله مدده، قد لا يتقبل منه ما عمله، التوبة المؤقتة لا تقبل إنما تقبل التوبة المستديمة المستمرة، من شروط قبول التوبة العزم أن لا يعود إلى الذنوب، سئل بعض الصالحين عن أقوام يجتهدون في شهر رمضان فإذا انتهى شهر رمضان عادوا إلى ما كانوا عليهم من الإضاعة والتفريط فقال: بأس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان، فلا نكن من هؤلاء أيها الأخوة.

فعلينا أن نراقب الله دائماً وأبدا إنما نعمل لأنفسنا نحن لا نعمل لغيرنا، نحن نعمل لأنفسنا فكيف تحرم نفسك من العمل الصالح؟ كيف تحملها من السيئات ما لا تطيق وهي نفسك؟ لماذا لا تتفكر في هذا؟ أنت لم توجد في هذه الدنيا لتأكل وتشرب وتعمر العمارات وتجمع الأرصدة إنما وجدت في هذه الدنيا لتعمل صالحاً هذا هو الغاية قال جل وعلا: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ* مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ)، نعم تأخذ من الدنيا ما يعينك على طاعة الله سبحانه من الكسب الحلال، وأما أن يكون همك الدنيا وشغلك للدنيا فأنت محروم، هذه الدنيا لا تدوم لك أو أنت لا تدوم لها في يوم من الأيام ولعله قريب يحال بينك وبين ما جمعت ويكون لغيرك.

فاتقوا الله، عباد الله، (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قول هذا واستغفر الله لي ولكم و لجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.