علام يعود الضمير في قوله تعالى: ((وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ))؟

المؤلف عبد القادر شكيمة

علام يعود الضمير في قوله تعالى: ((وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ))؟


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فهذه أقوال للمفسرين وغيرهم في عود الضمير (هو) في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُون}[البقرة:96]
اختُلف في ذلك على ستة أقوال:
القول الأول: عوده على (أَحَدُهُمْ) ، و(أَن يُعَمَّرَ) فاعل (بِمُزَحْزِحِهِ) ، والمعنى: وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميرُه. وهو قول “الواحدي والسيوطي وابن عثيمين، ورجحه أبو حيان والشوكاني، وجوزه الزجاج وابن عطية والزمخشري وابن الجوزي والرازي والعكبري والبيضاوي وأبو السعود والآلوسي”(1).
القول الثاني: عوده على الوداد الذي دل عليه (يَوَدُّ). انفرد به ابن الحاجب وعبَّر عنه بضمير الوداد(2).
القول الثالث: عوده على المصدر المفهوم من قوله تعالى: (لَوْ يُعَمَّرُ) ، و(أَن يُعَمَّرَ) بدل منه, وعبر عنه ابن الحاجب بضمير التعمير. وهو قول السمرقندي(3)، وثاني قولين رجحهما الشوكاني(4)، وجوزه “الزجاج وابن عطية والعكبري”(5)، واستبعده ابن عاشور(6)، ودافع عنه الألوسي بقوله: ((اعترض بأن فيه ضعفا للفصل بين البدل والمبدل منه، وللإبدال من غير حاجة إليه، وأجاب بعض المحققين أنه لما كان لفظ التعمير غير مذكور بل ضميره حسن الإبدال، ولو كان التعمير مذكورا بلفظه لكان الثاني تأكيدا لا بدلا، ولكونه في الحقيقة تكريرا يفيد فائدته من تقرير المحكوم عليه اعتناء بشأن الحكم بناء على شدة حرصه على التعمير ووداده إياه، جاز الفصل بينه وبين المبدل منه بالخبر، كما في التأكيد في قوله تعالى: {وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُون}[هود:19]))(7).
القول الرابع: لا يعود على شيء قبله؛ فهو مبهم، و (أَن يُعَمَّرَ) بدل منه موضح له. وهو قول ذكره “الزمخشري، وجوزه ابن عاشور”(8)، واستشهد له بقول الشاعر:
وَمَا الحَرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتمْ وَذُقْتُمُ *** وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالحَدِيثِ المُـرَجَّمِ(9).
ووجهه الآلوسي وبين فائدته بقوله: ((والتفسير بعد الإبهام ليكون أوقع في نفس السامع، ويستقر في ذهنه كونه محكوما عليه بذلك الحكم))(10).
والفرق بين القولين الأخيرين بينه أبو حيان فقال: ((والفرق بين هذا القول والذي قبله، أن مفسر الضمير هنا هو البدل، ومفسره في القول الأول هو المصدر الدال عليه الفعل في (لَوْ يُعَمَّرَ) ، وكون البدل يفسر الضمير فيه خلاف، ولا خلاف في تفسير الضمير بالمصدر المفهوم من الفعل السابق، فهذا يفسره ما قبله، وذاك يفسره ما بعده))(11).
القول الخامس: هو ضمير الأمر والشأن. ذكره أبو حيان(12)، وقال الشوكاني: ((ضعيف جدا))(13). ولم يجوزه العكبري بحجة أن المفسِّر لضمير الشأن مبتدأ وخبر، ودخول الباء في (بِمُزَحْزِحِهِ) يمنع من ذلك(14).
ووضحه السمين الحلبي قائلا: ((وإليه نحا الفارسي(15) في «الحلبيات»(16) موافقةً للكوفيين، فإنهم يفسرون ضمير الأمر بغير جملة إذا انتظم من ذلك إسناد معنوي، نحو: ظننته قائما الزيدان، وما هو بقائم زيد؛ لأنه في قوة: ظننته يقوم الزيدان، وما هو يقوم زيد، والبصريون يأبون تفسيرَه إلا بجملة مُصرَّحٍ بجزئيها سالمةٍ من حرف جر…))(17)، ولم يجوزه ابن عاشور وإنما جعله قريبا منه؛ وعلل ذلك بقوله: ((لأن المقصود منه الاهتمام بالخبر؛ ولأن ما بعده في صورة الجملة))(18).
القول السادس: هو عماد؛ أي ضمير فصل قدم مع الخبر, وضَّحه السمين الحلبي بقوله: ((وهذا يحتاج إلى إيضاح: وذلك أنَّ بعض الكوفيين يُجِيزون تقديم العِماد مع الخبر المقدَّم، يقولون في (زيدٌ هو القائم): هو القائمُ زيدٌ، وكذلك هنا، فإنّ الأصل عند هؤلاء أن يكون (بِمُزَحْزِحِهِ) خبرا مقدَّما و(أَن يُعَمَّرَ) مبتدأ مؤخرا، و(هُوَ) عماد، والتقدير: وما تعميرُه هو بمزحزحه، فلمَّا قدِّم الخبر قدِّم معه العماد. والبصريُّون لا يجيزون شيئا من ذلك))(19)، ورجحه الطبري(20) ونقله عنه ابن عطية(21) واستبعده الآلوسي(22)، وقال الشوكاني: ((ضعيف جدا؛ لأن العماد لا يكون إلا بين شيئين))(23).
الترجيـــــح:
الذي يظهر من خلال ما سبق –والله تعالى أعلم- ترجيح القول الثالث، وهو عود الضمير (هُوَ) على المصدر المفهوم من قوله تعالى: (لَوْ يُعَمَّرُ)، و (أَن يُعَمَّرَ) بدل منه، فيكون المعنى: ((ولا يُبعده هذا العمر الطويل -إن حصل- من عذاب الله))(24)؛ لأنه قد تقرر في علم العربية وعلوم القرآن وقواعد الترجيح عند المفسرين: الأصل عود الضمير إلى أقرب مذكور ما لم يرد دليل بخلافه(25)، والمصدر المفهوم من (لَوْ يُعَمَّرُ) أقرب مذكور فينبغي حمل الضمير (هُوَ) عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــ
(1) ينظر: التفسير البسيط للواحدي: (3/170)، تفسير الجلالين: (20)، تفسير الفاتحة والبقرة لابن عثيمين: (1/310-311)، البحر المحيط لأبي حيان: (1/505-506)، فتح القدير للشوكاني: (1/35)، معاني القرآن وإعرابه للزجاج: (1/178)، المحرر الوجيز لابن عطية: (1/182)، الكشاف للزمخشري: (1/168)، زاد المسير لابن الجوزي: (1/90)، مفاتيح الغيب للرازي: (3/610)، التبيان للعكبري: (1/96)، تفسير البيضاوي: (1/95)، تفسير أبي السعود: (1/133)، روح المعاني للألوسي: (1/330).
(2) أمالي ابن الحاجب: (1/237-238).
(3) ينظر: تفسير السمرقندي (بحر العلوم): (1/75).
(4) ينظر: فتح القدير للشوكاني: (1/35).
(5) ينظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج: (1/178)، المحرر الوجيز لابن عطية: (1/182)، التبيان للعكبري: (1/96).
(6) ينظر: التحرير والتنوير لابن عاشور: (1/619).
(7) ينظر: روح المعاني للآلوسي: (1/330).
(8) ينظر: الكشاف للزمخشري: (1/168)، التحرير والتنوير لابن عاشور: (1/619).
(9) البيت لزهير بن أبي سلمى من معلقته. ينظر: شرح المعلقات السبع للزوزني: (85).
(10) ينظر: روح المعاني للألوسي: (1/330).
(11) البحر المحيط لأبي حيان: (1/505-506)، وينظر: الدر المصون للسمين الحلبي: (1/256).
(12) ينظر: البحر المحيط لأبي حيان: (1/506).
(13) فتح القدير للشوكاني: (1/135).
(14) ينظر: التبيان للعكبري: (1/96).
(15) هو: الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، أبو علي، الفارسي الأصل، المشهور، ولد سنة (307هـ)، كان واحد زمانه في علم العربية، اتهم بالاعتزال، من تصانيفه: الحجة، التذكرة، تعليقة على كتاب سيبويه، الأغفال، وغير ذلك. توفي سنة (377هـ). ينظر في ترجمته: بغية الوعاة للسيوطي: (1/496)، الأعلام لللزركلي: (2/179).
(16) ينظر: المسائل الحلبيات لأبي علي الفارسي: (244).
(17) ينظر: الدر المصون للسمين الحلبي: (2/15).
(18) التحرير والتنوير لابن عاشور: (1/619).
(19) الدر المصون للسمين الحلبي: (2/15).
(20) ينظر: تفسير الطبري: (2/374).
(21) ينظر: المحرر الوجيز لابن عطية: (1/182).
(22) ينظر: روح المعاني للآلوسي: (1/330).
(23) فتح القدير للشوكاني: (1/135).
(24) التفسير الميسر لنخبة من أساتذة التفسير: (15).
(25) ينظر: شرح التسهيل لابن مالك: (1/157)،البرهان في علوم القرآن للزركشي: (4/39)، قواعد الترجيح عند المفسرين لحسين بن علي الحربي: (2/621).

 

04 / 12 / 1438هـ

27 / 08 / 2017م