السِّقط.. مسائل.. وأحكام / إبراهيم بويران

المؤلف إبراهيم بويران

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:


اقتضت حكمة الله تعالى أن يمرَّ خلقُ الإنسان بعدد من الأطوار والمراحل قبل خروجه من بطن أمه إلى هذه الحياة، وقد جاءت الإشارة إلى هذه الأطوار في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، من ذلك قوله تعالى في سورة الحج:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا.


ففي هذه الآية بيان للمراحل الثلاث التي يمر بها الجنين، وهي طور النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، وقد وصف الله تعالى المضغة بأنها مخلقة وغير مخلقة، والمراد بغير المخلقة عند جماعة من أهل العلم: السِّقط.


قال الإمام ابن جرير (رحمه الله) في تفسير هذه الآية: «اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ﴿مخلَّقة وغير مخلَّقة، فقال بعضهم: هي من صفة النطفة، قال: ومعنى ذلك: فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة مخلَّقة وغير مخلقة قالوا: فأما المخلقة فما كان خلقا سَوِيًّا وأما غير مخلقة، فما دفعته الأرحام، من النطف، وألقته قبل أن يكون خلقا…
وقال آخرون: معنى ذلك: تامة وغير تامة…
وقال آخرون: معنى ذلك المضغة مصوَّرة إنسانا وغير مصوَّرة، فإذا صورت فهي مخلقة وإذا لم تصوَّر فهي غير مخلقة.


وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: المخلقة المصورة خلقًا تامًا، وغير مخلقة: السِّقط قبل تمام خلقه، لأن المخلقة وغير المخلقة من نعت المضغة والنطفة بعد مصيرها مضغة، لم يبق لها حتى تصير خلقا سويا إلا التصوير، وذلك هو المراد بقوله ﴿مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ خلقا سويا، وغير مخلقة بأن تلقيه الأم مضغة ولا تصوّر ولا ينفخ فيها الروح»[ جامع البيان (18/567)].


وبوَّب البخاري في كتاب الحيض من «صحيحه» باب “مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ”
 

ثم قال: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا يَقُولُ يَا رَبِّ نُطْفَةٌ يَا رَبِّ عَلَقَةٌ يَا رَبِّ مُضْغَةٌ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهُ قَالَ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ فَمَا الرِّزْقُ وَالْأَجَلُ فَيُكْتَبُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ».


قال الحافظ ابن حجر:« قوله باب «مخلقة وغير مخلقة» رويناه بالإضافة أي: باب تفسير قوله تعالى: «مخلقة وغير مخلقة…ومناسبة الحديث للترجمة من جهة أن المذكور مفسر للآية.


وأوضح منه سياقًا ما رواه الطبري من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود قال: « إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكا فقال: يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال غير مخلقة مجها الرحم دمًا، وإن قال مخلقة، قال: يا رب فما صفة هذه النطفة؟ » فذكر الحديث وإسناده صحيح وهو موقوف لفظا مرفوع حكما.


وحكى الطبري لأهل التفسير في ذلك أقوالا وقال: الصواب قول من قال: المخلقة المصورة خلقًا تامًا وغير المخلقة السقط قبل تمام خلقه، وهو قول مجاهد والشعبي و غيرهما »[فتح الباري (2/210)] .


و يترتب على السقط عدد من الأحكام التي ينبغي على المسلم معرفتها وتحصيل الفقه الصحيح فيها، لاسيما وأنها مسألة قد عمَّت بها البلوى، مع ما نراه من جهل كثير من المسلمين بأحكامها أو بعضها.


ولذا رأيت أن أجلي بعض ما خفي من هذه الأحكام في هذا المقال مقتصرًا على الأهم فالمهم من ذلك، عسى أن يجد فيه المسترشد بغيته، و المستشكل حاجته، و قد جعلته في فصلين:


الأول: أحكام تتعلق بالسِّقط نفسه
الثاني: أحكام تتعلق بأمه

 

الأحكام المتعلقة بالسقط نفسه
* تجهيزه و الصلاة عليه*
 

اختلف أهل العلم في الصلاة على السقط، فقال بها فقهاء المحدثين وبعض السلف، إذا مضى عليه أربعة أشهر، ومنعها جمهور الفقهاء حتى يستهل وتعرف حياته بغير ذلك [شرح مسلم للنووي (7/51)].

 

 

 


قال ابن قدامة في المغني(2/328 ): «أجمع أهل العلم على أن الطفل إذا عرفت حياته واستهل يصلى عليه، أما إذا لم يستهل: قال الإمام أحمد رحمه الله:«إذا أتى له أربعة أشهر غُسِّل وصلي عليه، وهذا قول سعيد بن المسيب، وابن سيرين، وإسحاق، وصلى ابن عمر على ابن لابنته ولد ميتاً»انتهى .
 

* وأما السِّقط يسقط قبل أن يتم له أربعة أشهر : فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه ، لأنه لم تنفخ فيه الروح، فيجعل في خرقة ويدفن بأي مكان من الأرض.


قال في «المغني» (2/393):« فأما من لم يأت له أربعة أشهر فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه ويلف في خرقة ويدفن ولا نعلم فيه خلافا إلا عن ابن سيرين فإنه قال: يصلى عليه إذا علم أنه نفخ فيه الروح، وحديث الصادق المصدوق يدل على أنه لا ينفخ فيه الروح إلا بعد أربعة أشهر وقبل ذلك فلا يكون نسمة فلا يصلى عليه كالجمادات والدم» انتهى.


واستدل من قال بمشروعية الصلاة على السقط إذا تم له أربعة أشهر بما رواه أبو داود (3180) والترمذي (1 / 192) وغيرهما من حديث المغيرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «السقط يصلى عليه»، والحديث صححه العلامة الألباني رحمه الله في « أحكام الجنائز » (ص80) وقال معلقًا عليه:« وتشرع الصلاة على من يأتي ذكرهم: الأول: الطفل، ولو كان سقطا، وهو الذي يسقط من بطن أمه قبل تمامه، وفي ذلك حديثان:


1 – «…والطفل (وفي رواية: السقط) يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» رواه أبو داود والنسائي وغيرهما بسند صحيح ..ثم ذكر الحديث الثاني ثم قال:« والظاهر أن السقط إنما يصلي عليه إذا كان قد نفخت فيه الروح، وذلك إذا استكمل أربعة أشهر، ثم مات، فأما إذا سقط قبل ذلك فلا ، لأنه ليس بميت كما لا يخفى.


وأصل ذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: « إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين، يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملكا…ينفخ فيه الروح »متفق عليه.


واشترط بعضهم أن يسقط حيا، لحديث: ” إذا استهل السقط صلي عليه وورث “.
ولكنه حديث ضعيف لا يحتج به، كما بينه العلماء »انتهى.


وقال النووي في « المجموع »(5/258): قال العبدري: إن كان له دون أربعة أشهر لم يصل عليه بلا خلاف، وإن كان له أربعة أشهر ولم يتحرك لم يصل عليه عند جمهور العلماء، وقال أحمد وداود رحمهما الله: يصلى عليه»انتهى.
 

* تسمية السِّقط والعقّ عنه*
 

اختلف أهل العلم في مشروعية العقِّ عن السِّقط بين مانع ومجيز لذلك، وعلَّل المانعون من العقِّ عن السِّقط بأن العقيقة تجري مجرى الفداء، ولذلك استُحب أن لا يُكسر عظمها، تفاؤلًا بسلامة أعضاء المولود وقوتها وصحتها، حتى يكون كل عضو منها فداءَ كل عضو منه تخليصًا للمولود في الظاهر والباطن.

 

 

 


قالوا: وهذا المعنى يغيب في المولود الميت وكذا السقط.[أنظر رسالة شيخنا العلامة محمد علي فركوس « 40 سؤالًا في أحكام المولود » (ص59) ].


* وذهب جماعة من محققي العلماء إلى مشروعية العقِّ عن السِّقط الذي نفخت فيه الروح، وكذا تسميته، أما من لم تنفخ فيه الروح فلا يعق عنه، واحتجوا لذلك بأنه حيٌّ يبعث يوم القيامة وينتفع بشفاعته لوالديه، فيشرع العق عنه.


سئل العلامة العثيمين رحمه الله: السِّقط هل له عقيقة؟


فأجاب رحمه الله: السِّقط؛ إذا مات قبل أربعة أشهر فليس بآدمي؛ بل هو قطعة لحم يدفن في أي مكانٍ كان، ولا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يبعث يوم القيامة، وإذا كان بعد أربعة أشهر فقد نفخت فيه الروح وصار إنساناً، فإذا سقط، فإنه يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويسمى، ويعق عنه؛ لكن العقيقة عنه ليست كالعقيقة عمن ولد حياً وبقي يوماًً أو يومين، والعقيقة عمن بقي يوماًً أو يومين ليست كالعقيقة عمن أتم سبعة أيام؛ ولهذا بيّن النبي عليه الصلاة والسلام أن العقيقة تذبح في اليوم السابع، فمن العلماء من قال: إذا مات الطفل قبل اليوم السابع أو خرج ميتاً، فإنه لا يعق عنه؛ لأنه لم يأتِ الوقت الذي تسن فيه العقيقة، وهو اليوم السابع؛ ولهذا قلنا: إن المسألة على الترتيب من سقط من بطن أمه قبل أن يتم له أربعة أشهر، فهذا لا يعق، ولا يسمى عنه، وليس له حكم الآدمي، فلا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ويدفن في أي مكانٍ من الأرض، ومن سقط بعد أربعة أشهر ميتاً، فإنه يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويسمى، ويعق عنه، ومن مات، ومن سقط حياً وبقي يوماً أو يومين ومات قبل السابع، فهو كذلك أيضاًً يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن في المقابر مع الناس، ويعق عنه؛ لكن هذا هو الذي قلنا فيه خلاف، ومن بقي إلى اليوم السابع، ثم مات بعده، فإنه يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن مع المسلمين، ويسمى، ويعق عنه » [فتاوى نور على الدرب (1/292) ].


و سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة العلامة ابن باز رحمه الله:


السقط المتبين أنه ذكر أو أنثى هل له عقيقة أو لا؟


فكان الجواب: « لا عقيقة عن السقط، ولو تبين أنه ذكر أو أنثى إذا سقط قبل نفخ الروح فيه؛ لأنه لا يسمى غلاما ولا مولودا »[ فتاوى اللجنة الدائمة (11/447)].


* وأما بالنسبة لتسمية السِّقط فالذي عليه جماعة العلماء أنه يسمى وعلَّلوا ذلك بكونه يبعث يوم القيامة، و الناس إنما يدعون يوم القيامة بأسمائهم وأسماء آبائهم، فيسمى حتى يدعى باسمه يوم القيامة.


قالوا: فإن شك فيه هل هو ذكر أو أنثى؟ فإنه يسمى باسم صالح للذكر والأنثى مثل هبة الله، أو عطية الله، أو نحلة الله، وما أشبه ذلك.


أما إذا كان ذكراً فيسمى باسم الذكور كعبد لله، وإن كان أنثى يسمى بأسماء الإناث كزينب، وفاطمة »[ الشرح الممتع (5/143) باختصار يسير ].

 

* إذا أُسقط الجنين بسبب العدوان على أمِّه *
 

إذا اعتدى معتدٍ على امرأة حامل فأسقطت جنينها ميتًا سواء سقط في الحال، أو بعد مدة بسبب الضرب ونحوه، ففيه دية مقدارها غُرَّة عبد أو أمة، سواء كان السقط ذكرًا أو أنثى، وسواء كانت الجناية عمدًا أو خطأً.

 

 

 


لما رواه البخاري (6909) ومسلم (1681) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:« قَضَى فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لَحْيَانَ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا».


قال النووي في ” شرح مسلم “(11/176):«قال أهل اللغة: الغرة عند العرب أنفس الشيء وأطلقت هنا على الإنسان لأن الله تعالى خلقه في أحسن تقويم.. واتفق العلماء على أن دية الجنين هي الغرة سواء كان الجنين ذكرا أو أنثى، قال العلماء: وإنما كان كذلك لأنه قد يخفى فيكثر فيه النزاع فضبطه الشرع بضابط يقطع النزاع، وسواء كان خلقه كامل الأعضاء أم ناقصها أو كان مضغة تصور فيها خلق آدمي ففي كل ذلك الغرة بالإجماع »انتهى.


وقيمة الغرة خمس من الإبل تورث عنه، قال ابن قدامة في « المغني» (11/518): « الغرة قيمتها نصف عشر الدية وهي خمس من الإبل، روي ذلك عن عمر وزيد رضي الله عنهما، وبه قال النخعي والشعبي وربيعة وقتادة ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، ولأن ذلك أقل ما قدره الشرع في الجنايات وهو أرش الموضحة ودية السن فرددناه إليه» انتهى.


* والعبرة بنزول الجنين، أما إذا نزل لحم لا تخلق فيه، أو عبارة عن انتفاخ فزال الانتفاخ فلا عبرة به، والعبرة بخروجه جنينًا قد تخلق سواء كانت معرفته واضحة، أو عن طريق أصحاب الخبرة، ففي مثل هذا قدر الجمهور الغرة: بخمس من الإبل.[ الفائض في الفرائض(ص30) بتصرف يسير ].


* وأما إذا انفصل الجنين حيًا بسبب العدوان على أمه ثم مات ففي هذه الحالة تجب فيه الدية كاملة.


قال النووي رحمه الله في « شرح مسلم » (11/176):« واعلم أن المراد بهذا كله إذا انفصل الجنين ميتا أما إذا انفصل حيا ثم مات فيجب فيه كمال دية الكبير فإن كان ذكرًا وجب مائة بعير وإن كان أنثى فخمسون وهذا مجمع عليه وسواء في هذا كله العمد والخطأ» انتهى.


* و إذا ضُرِب بطنُ امرأةٍ فألقت أجِنَّة ففي كل واحد غرة، وبهذا قال الزهري، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وقال ابن المنذر: ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم، وذلك لأنه ضمان آدمي، فتعدَّد بتعدُّده كالدِّيات.[المرجع السابق] .
 

* ميراث السِّقط *
 

لا يرث السقط عند أهل العلم إلا إذا استهل، لقوله صلى الله عليه وسلم:« إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ صَارِخًا وَرِثَ» [ أخرجه أبو داود ( 2920 )، و ابن ماجه ( 2751 ) وصححه العلامة الألباني في « السلسلة الصحيحة » (1/285) ].

 

 

 


إلا أنهم اختلفوا في ما يكون به الاستهلال اختلافًا كثيرًا، ومرجع أقوالهم كلها إلى ما يثبت حياته وخروجه حيًّا، كالبكاء والعطاس، أو التثاؤب، أو مصِّ الثدي، أو فتح العينين، ونحو ذلك، لأن المقصود بالاستهلال معرفة حياته والتأكد من خروجه حيًا، وكل ما ذُكر يدل على ذلك.[ انظر: نيل الأوطار (6/186)، والمجموع (16/110)].


قال الإمام الصنعاني في “سبل السلام” (1/82):« قال ابن الأثير: استهل المولود إذا بكى عند ولادته وهو كناية عن ولادته حياً وإن لم يستهل بل وجدت منه أمارة تدل على حياته.
والحديث دليل على أنه إذا استهل السقط ثبت له حكم غيره في أنه يرث.
ويقاس عليه سائر الأحكام من الغسل والتكفين والصلاة عليه ويلزم من قتله القود أو الدية»
انتهى.
 

* و أما إذا خرج الجنين ميتًا فإنه في هذه الحالة لا يرث.


سئلت اللجنة الدائمة برئاسة العلامة ابن باز رحمه الله:
إن أخا السائق توفي عن أمه وإخوته وأخواته، وعن زوجته وهي حامل لها ستة أشهر، وبعد مضي خمسة وعشرين يوما تقريبا من تاريخ الوفاة مات الحمل، ثم سقط توأمان‏:‏ ذكر وأنثى لا حراك بهما، فهل يرث السقطان من أبيهما مع أنهما ماتا في بطن أمهما‏؟‏


فكان الجواب: إذا ثبت أن التوأم سقطا ميِّتين فلا إرث لهما من أبيهما ولا من غيره، وحياتهما في بطن أمهما بعد وفاة أبيهما خمسة وعشرين يوما أو أكثر لا توجب لهما الإرث لسقوطهما من أمهما ميتين‏،‏ وبالله التوفيق» [ فتاوى اللجنة الدائمة (17/47) ].
 

الفصل الثاني
* الأحكام المتعلقة بأمِّ السِّقط *

 

*حكم الدم النازل من المرأة بعد الإسقاط*

 

 

يُفرق العلماء في هذه المسألة بين ما إذا تبين في السقط خلق الإنسان كأن تظهر فيه بعض الأعضاء، ولو كان ظهورها ليس بواضح ففي هذه الحالة يعتبر الدم النازل من المرأة دم نفاس، يترتب عليه ما يترتب على المرأة النفساء من ترك الصلاة والصيام، وعدم معاشرة زوجها لها، وبين ما إذا لم يتبين في السِّقط شيء من خلق الإنسان وأعضائه، فالدم النازل منها والحالة هذه لا يعتبر دم نفاس، بل هو دم فساد لا يمنعها من الصلاة والصيام، فتتحفظ منه المرأة بخرقة ونحوها وتتوضأ وتصلي وتصوم كغيرها من النساء الطاهرات.


سئل العلامة ابن باز رحمه الله: إذا أجهضت المرأة فما حكم الدم هل هو دم نفاس، أو له حكم الحيض؟


فأجاب رحمه الله: إن كان الإجهاض بعدما تخلق الطفل وبان أنه إنسان، كأن بان الرأس أو اليد، ولو كان خفياً، فإنه يكون نفاساً، وعلى المرأة أن تدع الصلاة والصوم حتى تطهر، أو تكمل أربعين يوماً؛ لأن هذه نهاية النفاس.


وإن طهرت قبل ذلك فعليها: أن تغتسل وتصلي وتصوم، وتحل لزوجها، فإن استمر معها الدم تركت الصلاة والصيام ولم تحل لزوجها حتى تكمل الأربعين، فإذا أكملتها اغتسلت وصامت وصلت وحلت لزوجها، ولو كان معها الدم؛ لأنه دم فساد حينئذ؛ لأن ما زاد على أربعين يوماً يعتبر دم فساد، تتوضأ منه لكل صلاة، مع التحفظ منه، كالمستحاضة ومن به سلس البول.


أما إن كان لم يتخلق ولم يظهر ما يدل على خلق الإنسان فيه، كأن يكون قطعة لحم ليس فيها خلق إنسان أو مجرد دم، فإن هذا يعتبر دم فساد، تصلي وتصوم وتتوضأ لكل صلاة وتتحفظ جيداً» [ مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (12/147) ].


و قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: «ولا يثبت النفاس إلا إذا وضعت ما تبين فيه خلق إنسان، فلو وضعت سقطاً صغيراً لم يتبين فيه خلق إنسان فليس دمها دم نفاس ، بل هو دم عرق ، فيكون حكمها حكم الاستحاضة ، وأقل مدة يتبين فيها خلق إنسان ثمانون يوماً من ابتداء الحمل، وغالبها تسعون يوماً»[ رسالة « الدماء الطبيعية للنساء » (ص40) ].

 
* هل تنقضي عِدَّة الحامل بإسقاط السِّقط *
 

لم يختلف العلماء في أن عدة المرأة المطلقة الحامل أن تضع حملها، واختلفوا في المتوفى عنها زوجها وهي حامل؛
فقال جماهير العلماء من السلف والخلف : عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أن تضع حملها، شأنها شأن المطلقة لعموم قوله تعالى: { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }[الطلاق: 4] .
و ذهب بعضهم: إلى أن الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد بأبعد الأجلين، فلو وضعت قبل أربعة أشهر وعشر مثلًا بقيت معتدة إلى آخرها.
ولو توفي عنها زوجها وهي حامل ثم لم تضع بعد مرور أربعة أشهر وعشرًا فإنها تبقى في عدتها إلى حين وضع الحمل.


قال الإمام النووي رحمه الله في «شرح مسلم» (10/109): «فأخذ بهذا جماهير العلماء من السلف والخلف فقالوا: عدة المتوفى عنها بوضع الحمل حتى لو وضعت بعد موت زوجها بلحظة قبل غسله انقضت عدتها وحلت في الحال للأزواج، هذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد والعلماء كافة إلا رواية عن علي وابن عباس وسحنون المالكي: أن عدتها بأقصى الأجلين» انتهى.


* ويبقى الإشكال في المرأة التي أسقطت جنينها هل تنقضي عدتها بهذا السقط أم لا؟


سبق معنا أن السِّقط إذا لم يتبين فيه شيء من خلق الإنسان أو أحد أعضائه، فالدم النازل من المرأة لا يعتبر دم نفاس، بل هو دم فساد لا يمنعها من الصلاة والصيام، بخلاف ما إذا تبين في السقط صورة الآدمي أو بعض أعضائه فإن المرأة والحالة هذه تعتبر نفساء، كما لو وضعت جنينها حيًا كاملا، فتترك ما تتركه النفساء من صلاة وصيام ونحو ذلك، وتنقضي بذلك عدتها.


وجملة ذلك أن المرأة إذا ألقت بعد فرقة زوجها شيئا لم يخل من خمسة أحوال:


أحدها: أن تضع ما بان فيه خلق الآدمي من الرأس واليد والرجل فهذا تنقضي به العدة بلا خلاف بينهم، قال ابن المنذر: « أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن عدة المرأة تنقضي بالسقط إذ علم أنه ولد، وممن نحفظ عنه ذلك الحسن وابن سيرين وشريح والشعبي والنخعي والثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق…


الحال الثاني : ألقت نطفة أو دمًا لا تدري هل هو ما يخلق منه الآدمي أو لا فهذا لا يتعلق به شيء من الأحكام لأنه لم يثبت أنه ولد لا بالمشاهدة ولا بالبينة .


الحال الثالث : ألقت مضغة لم تبن فيها الخلقة فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية بان أنها خلقة آدمي فهذا في حكم الحال الأولى لأنه قد تبين بشهادة أهل المعرفة أنه ولد.


الحال الرابع: إذا ألقت مضغة لا صورة فيها فشهد ثقات من القوابل أنه مبتدأ خلق آدمي، فاختُلف عن أحمد: فنقل أبو طالب أن عدتها لا تنقضي به ولا تصير به أم ولد لأنه لم يبن فيه خلق آدمي فأشبه الدم، وقد ذُكر هذا قولا للشافعي وهو اختيار أبي بكر، ونقل الأثرم عن أحمد: أن عدتها لا تنقضي به ولكن تصير أم ولد لأنه مشكوك في كونه ولدا فلم يحكم بانقضاء العدة المتيقنة بأمر مشكوك فيه، ولم يجز بيع الأمة الوالدة له مع الشك في رقها، فيثبت كونها أم ولد احتياطا ولا تنقضي العدة احتياطا ونقل حنبل أنها تصير أم ولد ولم يذكر العدة، فقال بعض أصحابنا: على هذا تنقضي به العدة وهو قول الحسن وظاهر مذهب الشافعي لأنهم شهدوا بأنه خلقة آدمي أشبه ما لو تصور والصحيح أن هذا ليس برواية في العدة لأنه لم يذكرها ولم يتعرض لها.


الحال الخامس: أن تضع مضغة لا صورة فيها ولم تشهد القوابل بأنها مبتدأ خلق آدمي فهذا لا تنقضي به عدة ولا تصير به أم ولد؛ لأنه لم يثبت كونه ولدًا ببيِّنة ولا مشاهدة فأشبه العلقة، فلا تنقضي العدة بوضع ما قبل المضغة بحال، سواء كان نطفة أو علقة، وسواء قيل إنه مبتدأ خلق آدمي أو لم يقل، نص عليه أحمد فقال : أما إذا كان علقة فليس بشيء إنما هي دم لا تنقضي به عدة ولا تعتق به أمة، ولا نعلم مخالفا في هذا إلا الحسن فإنه قال : إذا علم أنها حمل انقضت به العدة وفيه الغرة، والأول أصح وعليه الجمهور» [ المغني لابن قدامة (9/114)].


قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: « الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أنه إذا شهد ثقات من القوابل العارفات، بأن تلك المضغة مبدأ جنين، وأنها لو بقيت لتخلقت إنساناً، أنها تنقضي بها العدة، وتصير بها الأمة أم ولد، وتجب بها الغرة على الجاني. والله تعالى أعلم »[ أضواء البيان (4/276) ].

 
* حكم الإجهاض *
 

وإنما ذكرت حكم الإجهاض هاهنا لتعلقه بموضوع السقط، فإن الإجهاض هو إسقاط الحمل عمدًا، ويختلف حكمه بحسب الدافع له، فإن كان له مسوِّغٌ شرعيٌّ جاز، كأن يُعلم يقينًا بوفاة الحمل، أو يؤدي استمراره إلى هلاك الأم بعد استنفاذ الوسائل العلاجية لنجاتها، وأما إسقاطه بغير مبرِّرٍ شرعيٍّ ولاسيما بعد نفخ الروح فيه فيعتبر من المحرمات والجرائم.


وقد استفحل هذا الأمر في المجتمعات الإسلامية بسبب انتشار الزنى في أوساط الناس -والعياذ بالله-، نتيجة خروج النساء من البيوت لغير حاجة، وتبرجهن بزينتهن، فكم من امرأة حملت بغير نكاح شرعي، فآل بها الأمر إلى التخلص من الحمل عن طريق الإجهاض، ولو بعد نفخ الروح فيه، وبهذا تكون قد ارتكبت جريمتين: جريمة الزنا، وجريمة قتل نفس حرمها الله.


ومن هنا ضيَّق العلماء أمر الإجهاض وقيَّدوه بقيودٍ ثقال، لا يجوز الإقدام عليه إلا مكبَّلًا بها؛ فمن ذلك: ما جاء مصرحًا به في بيان مجلس هيئة كبار العلماء ( رقم 140 ) المنعقد بتاريخ 20/6/1407، وفيه:


1- لا يجوز إسقاط الحمل في مختلف مراحله إلا لمبرر شرعي وفي حدود ضيقة جداً.
2- إذا كان الحمل في الطور الأول وهي مدة الأربعين وكان في إسقاطه في هذه المدة خشية المشقة في تربية الأولاد أو خوفا من العجز عن تكاليف معيشتهم وتعليمهم أو من أجل مستقبلهم أو اكتفاء بما لدي الزوجين من الأولاد فغير جائز.
3- لا يجوز إسقاط الحمل إذا كان علقة أو مضغة حتى تقرر لجنة طبية موثوقة أن استمراره خطر على سلامة أمه بأن يخشي عليها الهلاك من استمراره جاز إسقاطه بعد استنفاد كافة الوسائل لتلافي تلك الأخطار.
4- بعد الطور الثالث وبعد إكمال أربعة أشهر للحمل لا يحل إسقاطه حتى يقرر جمع من الأطباء المتخصصين الموثوقين أن بقاء الجنين في بطن أمه يسبب موتها وذلك بعد استنفاذ كافة الوسائل لإنقاذ حياته ، وإنما رخص في الإقدام على إسقاطه بهذه الشروط دفعاً لأعظم الضررين وجلباً لعظمى المصلحتين» انتهى.


آخره، والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .